الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

45/12/01

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/ تنبيهات العلم الإجمالي / التنبيه الثاني انحلال العلم الإجمالي/ العلم الإجمالي في التدريجيات

انتهينا الى أنَّ محل الكلام في التدرجيات هو ما إذا كانت التدريجية في أحد الطرفين مستندة الى تقيُّده بزمان متأخر، على أن يكون هذا الزمان قيداً في الوجوب والواجب، فإنه هو الذي ينتج كون التكليف فعلياً على تقدير وليس فعلياً على تقدير آخر.

ثم إنَّ الزمان المتأخر عندما لا يكون قيداً في التكليف لا خطاباً ولا ملاكاً فهو قيدٌ في متعلق التكليف، ولازمه هو أنَّ يكون التكليف فعلي خطاباً وملاكاً وإن كان المُكلَّف به استقبالياً، وهذا مبني على إمكان الواجب المعلَّق.

وتطبيق ذلك على مثال النذر بأن يقال إنَّ التكليف بوجوب الوفاء بالنذر يكون فعلياً خطاباً وملاكاً وإن كان الاتيان بالمكلَّف به استقبالياً، ونفس الكلام يقال في مثال الربا فالمعاملة الربوية تتصف بكونها ذات ملاك ومفسدة ملزمة بمجرد افتراضها وإن كان وجودها استقبالياً، لا ينبغي الاشكال هنا في منجزية العلم الإجمالي لأنه علم بالتكليف على كلا التقديرين، وذلك لما تقدم من أنَّ المناط في منجزية العلم الإجمالي هو إما أن يكون علماً بالتكليف الفعلي على كل تقدير أو أن يكون صالحاً للتنجيز على كل تقدير، وهو متحقق فلا ينبغي الاشكال فيه.

وأما النحو الثاني وهو ما إذا كان الحكم المعلوم فعلياً على تقدير وليس فعلياً على تقدير آخر وهو محل الكلام، ومثاله الحائض الناسية لوقتها، ولكن على القول باستحالة الواجب المعلق، فإنَّ التكليف بحرمة دخول المسجد يكون فعلياً على تقدير أن يكون حيضها الآن، وليس فعلياً على تقدير أن يكون مستقبلاً.

وهنا تارة نفترض أن يكون الزمان المتأخر دخيلاً في التكليف خطاباً وملاكاً، وأخرى يكون دخيلاً خطاباً فقط، وعلى الثاني يكون الملاك فعلياً بخلاف الأول.

أما الأول فمثاله الحائض كما مر، وبناءً على استحالة الواجب المعلق فالتكليف ليس له وجود بما له من الملاك، فيكون لها تكليف فعلي على تقدير دون تقدير آخر

وأما الثاني – أن يكون دخيلاً في التكليف خطاباً لا ملاكاً - فعلى القول باستحالة الواجب المعلق فلا بد من القول بأنَّ التكليف ليس فعلياً خطاباً لكنه فعلي ملاكاً، ومثاله نذر القراءة اليوم أو غد فإنه بمجرد تعلق النذر يتصف الفعل المنذور بكونه ذا ملاك ملزم وإن كان التكليف بالوفاء مشروطاً بمجيء زمانه.

والحاصل إنَّ وجوب الوفاء بالنذر يختلف عن حرمة دخول المساجد فإنَّ الأول منوط بالنذر وقد فُرض تحققه فلا بد أن يكون التكليف بما له من الملاك فعلياً بعد تحقق النذر، غاية الأمر منع من فعلية التكليف خطاباً مانع اقتضى عدم التمكن من التكليف خطاباً، فيكون تأخره من جهة المانع لا لعدم المقتضي والملاك، بخلاف الثاني فإنه منوط بالحيض والمفروض عدم تحققه الآن فلا يكون التكليف ولا ملاكه فعلياً.

وعلى كل حال فالأقوال في هذه الصورة عديدة:

القول الأول: عدم المنجزية مطلقاً، وجواز الرجوع الى الأصل في كل من الطرفين، وهو ظاهر كلام صاحب الكفاية.

القول الثاني: المنجزية مطلقاً وعدم جواز الرجوع الى الأصل في الطرفين، وهو مختار المحققين النائيني والعراقي، وتبعهم السيد الخوئي والسيد الشهيد قُدست أسرارهم.

القول الثالث: التفصيل بين النحوين المتقدمين بالالتزام بالمنجزية في النحو الثاني – وهو دخالة الزمان في التكليف خطاباً لا ملاكاً - دون الأول وهو المنسوب الى الشيخ الأنصاري قده.

ولا يخفى أنَّ الأنسب أن يقع الكلام أولاً في النحو الأول، بمعنى أن يكون الزمان المتأخر دخيلاً في التكليف خطاباً وملاكاً، ومثاله الحائض فإن انتهينا الى القول بالمنجزية فلا إشكال في منجزية العلم الإجمالي في النحو الثاني كما لا يخفى، نعم إذا انتهينا الى عدم المنجزية في النحو الأول فلا بد من البحث عن المنجزية في النحو الثاني باعتبار وجود خصوصية فيه ليست موجودة في الأول، وهي كون الملاك فعلياً، فيقع الكلام في أنَّ هذه الخصوصية هل توجب تنجيز العلم الإجمالي أو لا ؟

استُدل على عدم منجزية العلم الإجمالي في النحو الأول بوجوه:

الوجه الأول ما يظهر من الكفاية من أنَّ المعتبر في منجزية العلم الإجمالي كونه متعلقاً بالتكليف الفعلي على كل تقدير، وهو في المقام ليس كذلك، بل هو متعلق بتكليف فعلي على تقدير وغير فعلي على تقدير آخر، وإذا لم يكن فعلياً على كل تقدير الآن فلا يكون قابلاً للتنجيز، ومن الواضح أنَّ الجامع بين ما لا يقبل التنجيز وما يقبل التنجيز غير قابل للتنجيز لأنَّ النتيجة تتبع أخس المقدمات.

وأُجيب عنه بإنكار اعتبار ما ذُكر في منجزية العلم الإجمالي، إذ لا دليل على ذلك بل يكفي في منجزيته لأطرافه أن يكون علماً بتكليفٍ فعلي على كل تقدير ولو في عمود الزمان، فإذا كان أحد التكليفين المعلومين بالإجمال فعلياً في هذا الآن والآخر ليس كذلك بل هو فعلي في الزمان القادم كان العلم الإجمالي منجِّزاً لهما، إذ لا يُشترط في حكم العقل بتنجُّز تكليفٍ بالعلم أن يكون فعلياً الآن في زمان العلم أو يكون فعلياً في الزمان القادم، لأنَّ المنجزية حكم عقلي يتوقف على العلم بالتكليف لا على فعلية التكليف.