الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

45/11/17

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/ تنبيهات العلم الإجمالي / التنبيه الثاني انحلال العلم الإجمالي

الشرط الثالث أن لا يكون التكليف المنجَّز بالأمارة أو الأصل في الطرف المعين مغايراً للتكليف المعلوم بالإجمال، ومثال التغاير ما إذا فرضنا أننا علمنا بنجاسة أحد إناءين فيحرم استعماله، فالتكليف المعلوم بالإجمال هو حرمة الاستعمال من جهة النجاسة، فإذا فرضنا قيام الأمارة على حرمة استعمال هذا الاناء المعين ولكن من جهة الغصبية، فالتكليف المعلوم بالإجمال مغاير للتكليف الثابت بالمنجِّز فلا ينحل العلم الإجمالي، لوضوح أنَّ ما يُنجِّزه العلم الإجمالي هو غير ما تُنجزه الأمارة، فالحرمة من جهة النجاسة لا مانع من جريان الأصول فيها في كلا الطرفين، ولا يمكن القول أنَّ الأصل لا يجري في هذا الطرف لأنَّ الحرمة تنجزت بقيام الأمارة لأنها من جهة الغصب، وهي غير ما نجَّزه العلم الإجمالي، فالحرمة في هذا الطرف من جهة النجاسة لم تقم الأمارة عليها حتى تمنع من جريان الأصل، فإذا جرى الأصل في هذا الطرف عارضه جريان الأصل في الطرف الآخر ويتساقطان، فلا ينحل العلم الإجمالي.

فإن قيل كيف تتعارض الأصول والحال أنَّ مورد الأمارة محرم على كل حال، فكيف يجري فيه الأصل حتى يُعارض بالأصل في الطرف الآخر؟

والجواب إنَّ الأصل يجري في مورد الأمارة للتأمين من ناحية الحرمة الأخرى لنفي العقاب الزائد، وهو معقول جداً ولولاه لاستحق المكلف عقابين على تقدير المخالفة.

وبعبارة أخرى إنَّ هناك حرمة منجَّزة بالأمارة ويترتب عليها استحقاق العقاب على مخالفتها بارتكاب هذا الطرف وهي حرمة الغصب، وهناك حرمة أخرى محتملة في نفس هذا الطرف وهي حرمة استعمال النجس، وعلى تقدير تنجُّز هذه الحرمة بالعلم الإجمالي يترتب على ارتكاب هذا الطرف استحقاق عقابين على مخالفة حرمتين منجَّزتين، والبراءة تجري في هذا الطرف للتأمين من ناحية هذه الحرمة ولأجل نفي استحقاق العقاب الزائد، وهي معارضة بالبراءة في الطرف الآخر فيتنجَّز العلم الإجمالي.

فاذا تمت هذه الشروط الثلاثة انحلَّ العلم الاجمالي انحلالاً حكمياً، نعم هذا الانحلال إنما هو بالنسبة الى وجوب الموافقة القطعية فيترتب عليه جواز ارتكاب الطرف الآخر إذا اجتنب الطرف الأول الذي هو مورد الحجة المنجَّزة.

وأما بالنسبة الى حرمة المخالفة القطعية فهل ينحل العلم الإجمالي بقيام الأمارة أو الأصل في أحد الطرفين بلحاظ حرمة المخالفة القطعية أيضاً حتى يترتب عليه جواز ارتكاب الآخر حتى إذا ارتكب الطرف الأول، أو لا؟

والجواب يرتبط بالدليل الدال على جواز ارتكاب الطرف الآخر، فهل يدل على جواز ارتكاب الطرف الآخر مقيداً بترك ارتكاب الطرف الأول بحيث لا جواز مع ارتكابه لأنَّ ارتكابهما يكون أشد مخالفة وعصياناً مما إذا ارتكاب المورد المنجَّز، أو يدل على جواز ارتكاب الآخر مطلقاً، أي حتى إذا ارتكب الطرف الأول المنجَّز، فإذا ارتكبهما يكون عاصياً بمقدار مخالفة الطرف المنجَّز؟

والجواب: إذا كان الدليل الدال على جواز ارتكاب الطرف الآخر أصلاً عملياً شرعياً كحديث الرفع فالصحيح هو الثاني - أي جواز ارتكاب الطرف الآخر مطلقاً - فإنه يجري في الطرف الآخر بلا معارض، ويثبت به التأمين والسعة مطلقاً، إذ ليس فيه ما يقتضي التقييد بترك الطرف الأول، ويترتب عليه أنه إذا ارتكبهما معاً فهو لا يخالف إلا بمقدار مخالفة من يرتكب الطرف المنجَّز فقط، وبذلك يحصل الانحلال حتى بلحاظ المخالفة القطعية، بمعنى أنَّ ارتكاب الطرفين لا يترتب عليه من المخالفة واستحقاق العقاب أزيد مما يترتب على ارتكاب خصوص الطرف المنجَّز، بخلافه إذا لم نقل بالانحلال.

وأما إذا كان الدليل أصلاً عقلياً كقاعدة قبح العقاب بلا بيان فالصحيح هو الأول – أي أنَّ جواز ارتكاب الطرف الآخر مقيدٌ بعدم ارتكاب الطرف الأول – لأنَّ ارتكابهما معاً بنظر العقل يُعتبر أشد مخالفة وعصياناً مما إذا ارتكب الطرف المنجَّز فقط، وذلك لأنَّ ارتكابهما يعني مخالفة العلم في حين أنَّ ارتكاب الطرف المنجَّز فقط يعني مخالفة الأمارة، والعقل يرى أنَّ منجزية العلم أشد من منجزية الأمارة، ومخالفة العلم أقبح من مخالفة الأمارة، لأنَّ العلم لا يُحتمل فيه عدم المطابقة للواقع بخلاف الأمارة إذ يحتمل فيها ذلك، فمخالفة الأول أشد وأقبح بنظر العقل من مخالفة الثاني، وهذا يعني عدم الانحلال بلحاظ المخالفة القطعية.