الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

45/11/10

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/ تنبيهات العلم الإجمالي / التنبيه الثاني انحلال العلم الإجمالي

كان الكلام في المقام الأول وهو في تحقق الإنحلال الحقيقي تعبداً بالأمارات، وذلك باعتبار ما يُستفاد من أدلة اعتبارها من جعلها علماً تعبداً أو تنزيلها منزلة العلم، وعلى كلا التقديرين معنى الاعتبار هو ترتيب ما للعلم من آثار على الأمارة ومن جملتها الانحلال الحقيقي.

ويلاحظ عليه - على تقدير تسليم مبنى جعل الطريقية والعلمية - بأنَّ المستفاد من دليل الحجية هو ترتيب الآثار الشرعية الثابتة للعلم على الأمارة، وأما الآثار التكوينية الواقعية الثابتة للعلم فلا ينالها التنزيل والاعتبار، فتنزيل الفقاع منزلة الخمر إنما يكون بلحاظ الآثار الشرعية ولا يشمل الآثار التكوينية الثابتة للخمر من قبيل اللون والطعم ونحوها، ومن الواضح أنَّ الانحلال الحقيقي في المقام الثابت للعلم التفصيلي ليس أثراً شرعياً له بل هو من آثاره التكوينية فلا يمكن إثباته بدليل حجية الأمارة حتى لو سلمنا أنَّ مفاد دليل حجية الأمارة هو اعتبارها علماً أو تنزيل الأمارة منزلة العلم.

هذا مضافاً الى لغوية التعبد بالانحلال كما ذُكر لأنه إن كان الغرض منه التأمين من ناحية الطرف الآخر بلا حاجة الى إجراء الأصول المؤمّنة فيه فهو غير تام لأنَّ كل شبهة تحتاج الى التأمين عنها بالخصوص ولا يكفي فيه التعبد بالانحلال، وإن كان الغرض منه تمكن المكلف من إجراء ذلك الأصل في الطرف الآخر فهو غير تام أيضاً لأنه يحصل بدون حاجة الى التعبد بالانحلال، وذلك لأنَّ الملاك في إجراء الأصل وعدمه هو التعارض فيجري الأصل مع عدم المعارض في الطرف الآخر ولا يجري مع وجوده، ولا معارض له في محل الكلام لقيام الأمارة على ثبوت التكليف فيه المانع من إجراء الأصل فيه، فيجري الأصل في الطرف الآخر بلا معارض.

هذا كله في الانحلال الحقيقي تعبداً بالأمارات.

المقام الثاني في الانحلال الحكمي للعلم الإجمالي بالأمارات والأصول، وذلك بقيام الأمارة المثبتة للتكليف في أحد الطرفين المعين، ومعنى الانحلال الحكمي هو جريان الأصل المؤمِّن في الطرف الآخر.

والكلام يقع فيما إذا لم يكن المثبت للتكليف في الطرف المعين هو أصالة الاشتغال من جهة العلم الإجمالي، وإنما الكلام فيما إذا كان المثبت للتكليف هو أمارة أو أصل شرعي أو عقلي منجِّز، أما إذا كان المثبت للتكليف هو أصالة الاشتغال في الموارد التي يكون فيها علمان إجمالين يشتركان في طرف واحد فله بحث مستقل وله حيثيات تختلف عن سائر الموارد، وسيأتي الحديث عنه.

وأما في محل الكلام فالحجة التي قامت على ثبوت التكليف إن كانت أمارة فهي حجة في مداليلها المطابقية والالتزامية، ولو فرضنا أنَّ مدلولها الالتزامي يدل على نفي التكليف عن الطرف الآخر فتكون حجة في كلا مدلوليها، كما لو فرضنا أننا علمنا بنجاسة إناء زيد وتردد بين إناءين، وقامت الأمارة على أنه الإناء الأيمن، فمدلولها الالتزامي هو نفي صدق المعلوم بالإجمال على الطرف الآخر، وهنا يمكننا التمسك بمدلولها الالتزامي فننفي التكليف المعلوم بالإجمال في الطرف الآخر، وبهذا ينحل العلم الإجمالي حكماً بنفس الأمارة، فيمكن إجراء الأصول المؤمّنة في الطرف الآخر.

وأما إذا فرضنا أنَّ الحجة المنجِّزة للتكليف لم تكن كذلك بأن كانت أمارة ولكنها غير معينة للمعلوم الإجمالي بهذا الطرف ونافية لكونه في الطرف الآخر، أو كانت أصلاً منجزاً شرعياً أو عقلياً فيمكن إثبات الانحلال الحكمي بأحد الوجوه المتقدمة لإثبات الانحلال الحكمي بالعلم التفصيلي، مثلاً:

تقدم تقريب الانحلال الحكمي بلحاظ القواعد العقلية وبقطع النظر عن الأصول الشرعية، وحاصله هو أنه يستحيل أن يكون الجامع منجَّزاً بالعلم الإجمالي لأنَّ تنجيزه للجامع بحده الجامعي موقوف على قابلية أطرافه للتنجيز فإذا كان أحد الطرفين غير قابل للتنجيز بالعلم الإجمالي لأنَّ المنجَّز لا يقبل التنجيز ثانية فهذا يعني أنَّ العلم الإجمالي لا يُنجِّز الجامع، وهو يعني أنَّ العلم الإجمالي لا أثر له وهو معنى الانحلال الحكمي، ونفس هذا التقريب يأتي في محل الكلام بتبديل العلم التفصيلي بقيام الأمارة المنجِّزة أو جريان الأصل الشرعي أو العقلي المنجِّز للتكليف في الطرف المعين، فلا يقبل التنجيز بالعلم الإجمالي، وهذا يعني أنَّ العلم الإجمالي لا يستطيع أن ينجِّز الجامع بحده الجامعي، وهو معنى الانحلال الحكمي.

وكذا التقريب المتقدم لإثبات الإنحلال الحكمي بلحاظ الأصول الشرعية حيث يجري الأصل المؤمِّن في الطرف الآخر بلا معارض لتنجُّز الطرف المعين بالأمارة أو بالأصل الشرعي أو العقلي.

هذا كله بناءً على القول الاقتضاء كما هو الصحيح، وأما بناءً على العلية التامة فقد تقدم أنه لا مجال للانحلال الحكمي بالعلم التفصيلي لعدم جريان الأصل المؤمِّن في الطرف الآخر حتى إذا لم يكن له معارض وهو يعني عدم الانحلال الحكمي.

ثم إنَّ الانحلال الحكمي إذا ثبت في المقام فيُشترط فيه عدم تأخر هذا المنجِّز – أي الأمارة أو الأصل – عن العلم الإجمالي كما تقدم في العلم التفصيلي.