الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

45/11/06

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/ تنبيهات العلم الإجمالي / التنبيه الثاني انحلال العلم الإجمالي

كان الكلام في الانحلال الحكمي بالعلم التفصيلي وذلك في الموارد التي لا ينحل العلم الإجمالي به انحلالاً حقيقياً، وذلك عندما يؤخذ في المعلوم بالإجمال خصوصية وحدٍ زائد يُحتمل على أساسه عدم انطباقه على المعلوم بالتفصيل، فهل ينحل حكماً أو لا؟

وقلنا أنَّ الكلام في الانحلال الحكمي تارة يكون بلحاظ القواعد العقلية، وأخرى بلحاظ الأصول الشرعية المؤمِّنة.

أما الأول فقد يقال بانحلال العلم الإجمالي حكماً لما قيل من أنَّ العلم الإجمالي يستحيل أن يُنجِّز الجامع بين الطرفين لأنَّ الجامع بحده الجامعي يستحيل أن يتنجَّز بالعلم الإجمالي لأنَّ قابليته للتنجُّز به فرع قابلية كِلا الطرفين للتنجُّز بالعلم الإجمالي، وفي محل الكلام إذا افترضنا العلم التفصيلي بنجاسة هذا الاناء المعين فلا يكون العلم الإجمالي قابلاً لتنجيزه بعد تنجزه بالعلم التفصيلي، والشيء الواحد لا يقبل التنجيز مرتين، ومعه لا يتنجَّز الجامع بالعلم الإجمالي وهو معنى الانحلال الحكمي.

وهذا الدليل يتوقف على تسليم أمرين:

الأول: دعوى أنَّ العلم الإجمالي إذا نجَّز الجامع بين الطرفين فهذا التنجيز يسري الى كلا الطرفين على نحو البدلية، بمعنى أنَّ المعلوم بالإجمال إذا كان في هذا الطرف فالعلم الإجمالي يُنجِّزه وإذا كان في الطرف الآخر فكذلك، وهذا في قبال عدم امكان تنجيزه لهذا الطرف كما لو قام دليل على عدم ثبوت التكليف فيه، والعلم التفصيلي في هذا الطرف يكون مانعاً من تنجيز العلم الإجمالي له، وهذا هو معنى تنجيز الجامع لأطرافه على كل تقدير.

الثاني: إنَّ الطرف لا يقبل التنجيز إذا كان منجِّزاً بمنجزٍ سابق وهو العلم التفصيلي في محل الكلام، وعليه فالعلم الإجمالي لا يُنجِّز الجامع بحده الجامعي وهو معنى الانحلال الحكمي.

المناقشة:

ولكن كلٌ منهما محل مناقشة، أما الأمر الأول فالمناقشة فيه هي أنَّ الجامع في المقام ملحوظ على نحو صرف الوجود ومفاد النكرة لا بنحو مطلق الوجود ومفاد اسم الجنس، وسريان التنجيز من الجامع الى الأطراف إنما يكون في النحو الثاني لأنَّ الحكم إذا تعلق بالطبيعة بنحو مطلق الوجود فإنَّ لازمه السريان الى الأفراد، كما إذا وجب إكرام العالم بنحو مطلق الوجود فإنَّ كل فردٍ من العالم يجب إكرامه على سبيل البدل لا الشمول، وأما الأول – أي لحاظ الجامع بنحو صرف الوجود – فالسريان غير مُسلَّم كما لو وجب عتق رقبة فإنه لا يُلتزم بأنه كل فرد من أفراد الرقبة واجب العتق على نحو البدلية.

وأما الأمر الثاني – أي إنَّ المنجَّز لا يقبل التنجيز بمنجِّز آخر – ففيه:

أولاً: لم لا يقال بإمكان اجتماع منجزين في التنجيز كما هو الحال في الأمور التكوينية التي تجتمع فيها علتان على معلول واحد كاجتماع النار والشمس في تأثير الحرارة في الجسم، فمجموع العلتين هو العلة في التأثير وكل منهما يكون جزء العلة، فكذا يقال في باب التنجيز فالعلم الإجمالي والعلم التفصيلي جزءُ المؤثر في تنجيز هذا الطرف، وعليه فلا محذور في المقام في افتراض تنجيز العلم الإجمالي للطرف المعلوم تفصيلاً بالرغم من تنجزه بالعلم التفصيلي بل ظاهرهم الالتزام بذلك فيما لو اجتمع حكمان متماثلان في مادة الاجتماع كما في مثل: أكرم العالم وأكرم الهاشمي، فإنَّ العالم الهاشمي يجتمع فيه الحكمان، والملاكان للحكمين، ويصير كل واحد منهما جزء علة الملاك والحب في مادة الاجتماع.

وثانياً: إنَّ باب العلم والتنجيز ليس بابه باب الأسباب والمسببات التكوينية - حتى يقال: إذا اجتمع سببان للتنجيز ويستحيل اجتماع علتين على معلول واحد فلا بد من رفع اليد عن أحدهما وهو العلم الاجمالي فينسلخ عن التأثير وهو معنى الانحلال الحكمي، أو يقال: أنَّ مجموعهما هو العلة المؤثرة في التنجيز ويكون كل واحد منهما جزء العلة للتأثير في التنجيز - وإنما بابه هو باب إدراك العقل العملي لحق المولوية، أي إنَّ العلم الإجمالي بالتكليف هل يؤثر في التنجيز في الطرف الذي تعلّق به العلم التفصيلي أو لا، وعليه يقال: هل يثبت حق المولى في خصوص التكاليف الواصلة أو يثبت في مطلق التكاليف حتى المحتملة؟

وبناءً على الأول يقال: هل الوصول الاجمالي يكفي لإدخال التكليف في حق المولوية، كما هو الحال في الوصول التفصيلي أو لا؟

وعلى تقدير كفايته وأنه يوجب تنجيز التكليف وتجب طاعته عقلاً يقال: هل يدخل التكليف الواصل بالعلم الإجمالي في دائرة حق الطاعة والمولوية حتى مع تعلق العلم التفصيلي به أو لا؟

فإذا قلنا بأنَّ حق الطاعة ثابت في هذا التكليف المعلوم بالإجمال بالرغم من العلم التفصيلي فإنَّ معناه عدم الانحلال الحكمي، وإذا قلنا بخروجه عن حق الطاعة إذا تعلق به العلم التفصيلي فيترتب عليه الانحلال الحكمي.

ولا بد من التنبيه على أنَّ الانحلال الحكمي إذا قلنا به في محل الكلام فهو لا ينافي تنجُّز الطرف الآخر بالاحتمال بناءً على مسلك حق الطاعة، وحينئذٍ لا يجوز إجراء الأصول المؤمِّنة في الطرف الآخر، بل لا يجوز ارتكابه لأنَّ الانحلال وعدم تنجيز الجامع للطرفين إنما هو بلحاظ العلم الإجمالي وهذا لا ينافي تنجز الطرف الآخر بلحاظ الاحتمال ومسلك حق الطاعة.

هذا تمام الكلام في الانحلال الحكمي بلحاظ القواعد العقلية.

وأما الثاني - أي الانحلال الحكمي بلحاظ الأصول المؤمِّنة الشرعية - فهو يرتبط بالمختار في أنَّ العلم الإجمالي هل هو علة تامة لوجوب الموافقة القطعية كما ذهب اليه المحقق العراقي أو هو مقتضٍ لها، بمعنى أنَّ العلم الاجمالي بمفرده لا يُنجِّز وجوب الموافقة ابتداءً وإنما يتنجَّز وجوب الموافقة بعد تعارض الأصول المؤمِّنة في الأطراف وتساقطها، وبناءً على الاقتضاء - كما هو الصحيح - هل ينحل العلم الإجمالي حكماً أو لا؟

والصحيح هو الانحلال الحكمي لعدم تعارض الأصول مع تعلق العلم التفصيلي بأحد الطرفين، لوضوح عدم جريان الأصل المؤمِّن في ذلك الطرف - أي المعلوم تفصيلاً - فيجري الأصل في الطرف الآخر بلا معارض.