الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

45/11/04

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/ تنبيهات العلم الإجمالي / التنبيه الثاني انحلال العلم الإجمالي

الوجه الثالث: لا إشكال في الانحلال الحقيقي في الموارد التي يكون العلم التفصيلي ناظراً الى تعيين المعلوم بالإجمال، فلو قلنا بالانحلال في محل الكلام - الذي فُرض فيه أنَّ العلم التفصيلي ليس ناظراً الى تعيين المعلوم بالإجمال وإنما هو يثبت التكليف في هذا الطرف فقط - للزم أن لا يكون هناك فرق بين الحالتين، مع أنَّ الفرق بينهما ثابت بالوجدان، فلا بد أن يكون الفرق بينهما من هذه الجهة.

وفيه: أما ما ذُكر من الفرق بين الحالتين وأنه ثابت بالوجدان فهو صحيح لكنه ليس على أساس الانحلال في الحالة الأولى وعدمه في الحالة الثانية، وإنما هناك فرق ثابت بينهما بقطع النظر عن مسألة الانحلال، بل حتى لو قلنا بالانحلال في الحالة الثانية فالفرق بينهما ثابت بالوجدان، والسر فيه هو أنَّ العلم التفصيلي في الحالة الأولى يلزم منه أن يكون للمعلوم بالإجمال تعيُّن واقعي والعلم التفصيلي يُعيّن ذلك المعلوم بالإجمال فيثبته في طرفٍ وينفيه عن الطرف الآخر، وأما في الحالة الثانية فالعلم التفصيلي يوجب زوال العلم الإجمالي باعتبار أنَّ احتمال الانطباق في الطرف المعلوم بالتفصيل يتبدل الى العلم بالانطباق وهو الذي يوجب انحلال العلم الإجمالي، لكنه لا يستلزم تبدل احتمال الانطباق في الطرف الآخر الى العلم بعدم الانطباق، ذلك لأنَّ المعلوم بالإجمال له تعيُّن واقعي فإذا عيَّنه العلم التفصيلي في هذا الطرف فهو ينفيه عن الطرف الآخر، وأما في الحالة الثانية التي يُثبت العلم التفصيلي فيها التكليف في هذا الطرف من دون نظر الى المعلوم بالإجمال فهو وإن أوجب انحلال العلم الإجمالي لكنه لا ينفي الانطباق عن الطرف الآخر، فلا يكون موجباً لتبدل احتمال الانطباق في الطرف الآخر الى العلم بعدم الانطباق، وهذا فرق جوهري ووجداني بين الحالتين حتى لو قلنا بالانحلال في كل منهما.

وظهر من جميع ما تقدم أنَّ المسألة التي يجب بحثها والتي يتوقف عليها الالتزام بالانحلال أو الالتزام بعدمه هي أنَّ المعلوم بالإجمال في كل علم إجمالي هل يكون له حد وخصوصية يُحتمل على أساسها عدم انطباقه على المعلوم بالتفصيل؟

وذلك في قبال أن لا يكون للمعلوم بالإجمال حد وخصوصية فيكون انطباقه على المعلوم بالتفصيل قهرياً، كما إذا علمنا بنجاسة ناشئة من سقوط قطرة دم في أحد الإناءين ثم علمنا بنجاسة أحدهما المعيَّن مع احتمال وجود نجاسة أخرى غير ناشئة من سقوط قطرة دم فإنَّ المعلوم بالإجمال يُحتمل عدم انطباقه على المعلوم بالتفصيل.

فإذا أمكن إقامة برهان على وجود هذا الحد والخصوصية في كل معلوم بالإجمال فلا انحلال إذ لا يُعلم حينئذٍ بانطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل، بل يُحتمل انطباقه عليه ويُحتمل عدمه، وهذا يعني بقاء العلم الإجمالي وعدم انحلاله لوجود العلم بالجامع واحتمالات الانطباق في الأطراف.

وأما إذا فُرض قيام الدليل على عدم وجود حدٍ وخصوصية في المعلوم بالإجمال فيحصل الانحلال ويسري العلم من الجامع الى الفرد، لأنه مصداق حقيقي للجامع، فلا يعود العلم علماً بالجامع بحده الجامعي ولا مقترناً باحتمالات الانطباق في الأطراف، بل يكون علماً تفصيلياً بهذا الفرد وشك بدوي في الطرف الآخر، فلا بد من الكلام عن وجود حدٍ وخصوصية أو عدم وجود ذلك في المعلوم بالإجمال.

والصحيح أن يقال إنَّ كل علم إجمالي لا بد أن يكون له سبب، فالعلم الإجمالي بنجاسة أحد الاناءين ينشأ عادة من رؤية قطرة دم مثلاً تسقط في أحدهما من دون تمييز، وهكذا في بقية الأمثلة، وهذا السبب له حالتان:

الأولى أن يكون السبب مختص واقعاً بطرف من الأطراف ولكني لا أعلم أي طرف تحقق فيه هذا السبب، والأمثلة المتقدمة كلها من هذا القبيل، فقطرة الدم سقطت في طرف معين في الواقع ولكني لا أعلم أي طرف هو، وكذا في مثال موت أحد شخصين فإنَّ الميت له تعيُّن واقعاً ولكني لا أعلم به، وفي هذه الحالة المعلوم بالإجمال له حد وخصوصية وهو عنوان السبب الخاص، فيكون قيداً في المعلوم بالإجمال، ولذا يصح أن أقول إني لا أعلم بالنجاسة على إطلاقها وإنما أعلم بالنجاسة المقيدة بأنها نشأت من السبب الخاص، فإذا فرضنا حصول العلم التفصيلي بنجاسة الاناء الأيمن فهنا صور:

    1. أن يكون العلم التفصيلي ناظراً الى تعيين المعلوم بالإجمال، ولا إشكال في تحقق الانحلال فيها.

    2. أن لا يكون العلم التفصيلي ناظراً الى تعيين المعلوم بالإجمال ولكنه يتعلق بسبب آخر غير السبب الذي حصل به العلم الإجمالي، كما إذا علمتُ تفصيلاً بنجاسة الاناء الأيمن الناشئة من سقوط قطرة بول، وهنا لا إشكال في عدم الانحلال لعدم انطباق المعلوم بالتفصيل على المعلوم بالإجمال، وهذه الصورة خارجة عن محل الكلام أيضاً.

    3. أن لا يكون العلم التفصيلي ناظراً الى تعيين المعلوم بالإجمال أيضاً، وكذلك لا يتعلق بسبب آخر كما لو علمنا بنجاسة الاناء الأيمن مع الشك في سبب نجاسته وأنها نفس قطرة الدم التي هي سبب العلم الإجمالي أو أنها شيء آخر، ومن الواضح أنه حينئذٍ لا يُحرز انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل، لأنَّ المفروض كون المعلوم بالإجمال مقيداً بخصوصية قد توجب عدم الانطباق، فلا يسري العلم من الجامع الى الفرد فلا يحصل الانحلال.