45/10/29
الموضوع: الأصول العملية/ تنبيهات العلم الإجمالي / التنبيه الثاني إنحلال العلم الإجمالي
الكلام في انحلال العلم الإجمالي، وهو تارة يكون انحلالاً حقيقياً وأخري يكون انحلالاً حكمياً، والكلام فعلاً في الإنحلال الحقيقي، ونذكر له حالتين:
الحالة الأولى ما إذا ثبت تعُّين المعلوم بالإجمال في أحد الطرفين بعينه، كما إذا علم تفصيلاً بأنَّ النجاسة التي أوجبت العلم الإجمالي بلزوم اجتناب أحد الإناءين سقطت في الإناء الأيمن، ولا كلام في هذه الحالة في إنحلال العلم الإجمالي بهذا العلم التفصيلي انحلالاً حقيقياً، ويتحول الى علم تفصيلي بهذا الطرف وشك بدوي في الآخر.
وقد تقوم الأمارة بدور العلم التفصيلي وتوجب الإنحلال الحقيقي ولكن هذا على بعض المسالك في المجعول في باب الأمارات كمسلك جعل الطريقية والعلمية الذي يعني أنَّ كل ما يترتب على العلم من آثار فهو يترتب على الأمارة بالاعتبار، وحيث أنَّ العلم التفصيلي يوجب الانحلال الحقيقي فيترتب ذلك عليها أيضاً.
الحالة الثانية: أن نفترض أنَّ العلم التفصيلي ليس في مقام تعيين المعلوم بالإجمال في هذا الطرف، وإنما هو في مقام إثبات التكليف في هذا الطرف فقط، أي يجب اجتناب هذا الطرف من دون أن يُعيَّن المعلوم بالإجمال فيه، فيحتمل أن يكون المعلوم بالإجمال في هذا الطرف كما يحتمل أن يكون في الطرف الآخر، فالعلم الإجمالي باقٍ ولا يزول حقيقة ولكن التكليف يثبت في أحد الطرفين بعينه.
ويمكن تعميم ذلك الى قيام الأمارة في أحد الطرفين ولا نقتصر على العلم التفصيلي، بل يمكن التعميم الى الأصل العملي إذا أثبت التكليف في أحد الطرفين، كما لو كانت حالته السابقة هي النجاسة فنستصحب بقاء التكليف فيه وهو وجوب اجتنابه، وهذه الحالة هي محل الكلام في تحقق الانحلال الحقيقي فيها أو عدم تحققه، وخلاصتها هي أنَّ المعلوم تفصيلاً نحتمل انطباقه على ما هو المعلوم بالإجمال، فهل يتحقق فيها الانحلال أو لا؟
ممن ذهب الى تحقق الانحلال هو المحقق النائيني قده ويُستدل عليه بأدلة نستعرض بعضها:
الأول: الوجدان، وقد استدل به القائل بالانحلال والقائل بعدم الانحلال، ولا يمكن الكلام في القضايا الوجدانية، فالعهدة على مدعيه.
الثاني: قياس المقام بمسألة دوران الأمر بين الأقل والأكثر الاستقلاليين، وجعل محل الكلام من صغرياتها، فإذا علم المكلف بأنه يجب عليه قضاء صلاة واحدة وشك في أنه هل يجب عليه قضاء صلاة ثانية أو لا فيدور الأمر بين الأقل والأكثر، وكذا لو علم باشتغال ذمته بدينار وشك في اشتغالها بدينار آخر فيدور الأمر بين الأقل والأكثر الاستقلاليين،
ولا إشكال هنا في عدم تحقق العلم الإجمالي، لانحلاله بالعلم التفصيلي بوجوب دينار واحد وشك بدوي بوجوب دينار آخر، فإذا أدرجنا محل الكلام في هذه المسألة فنقول: هذا المكلف يعلم إجمالاً بأنَّ التكليف الثابت في حقه - هو وجوب اجتناب النجاسة - إما في هذا الإناء أو في كِلا الإناءين، فوجوب اجتناب النجاسة مردد بين الأقل والأكثر، ويدخل حينئذٍ في مسألة دوران الأمر بين الأقل والأكثر الاستقلاليين، فينحل العلم الإجمالي الى علم تفصيلي بوجوب الاجتناب عن هذا الطرف وشك بدوي بوجوب الاجتناب عن الطرف الآخر.
ولوحظ عليه بالفرق بين محل الكلام وبين مسألة دوران الأمر بين الأقل والأكثر الاستقلاليين، ففي محل الكلام يوجد علم اجمالي مع فرض العلم التفصيلي بنجاسة الاناء الأيمن، فهنا علمان والكلام يقع في أنَّ العلم الإجمالي هل ينحل بالعلم التفصيلي أو لا، وأما في مسألة دوران الأمر بين الأقل والأكثر الاستقلاليين فلا يوجد إلا علم واحد وهو العلم التفصيلي بوجوب قضاء صلاة واحدة، أو العلم التفصيلي باشتغال الذمة بدينار واحد، وتصويره بنحو العلم الإجمالي كما تقدم صوري وليس له واقع، فالقياس مع الفارق.
ويمكن أن نقول إنَّ الإنحلال في مسألة دوران الأمر بين الأقل والأكثر سالبة بانتفاء الموضوع إذ لا علم إجمالي حتى يكون العلم التفصيلي موجباً لانحلاله.
الدليل الثالث: ما ينسب الى المحقق النائيني قده وحاصله:
إنَّ العلم الإجمالي له ركنان أساسيان الأول تعلق العلم بالجامع، الثاني وجود احتمالات متعددة بعدد الأطراف لانطباق المعلوم بالإجمال عليها، ومع اختلال واحد من هذين الركنين يزول العلم الإجمالي، فتارة لا يتعلق العلم بالجامع أصلاً، وأخرى يتعلق بالجامع لكنه لم يقترن باحتمالات الانطباق على الأطراف وذلك إذا فرض سراية العلم من الجامع الى الفرد فيحصل العلم التفصيلي بانطباق المعلوم بالإجمال عليه، فينتفي احتمال الانطباق في كل طرف فيختل بذلك الركن الثاني، ويتبدل احتمال الانطباق الى العلم بالانطباق وهذا ما يوجب انحلال العلم الإجمالي.
وهذا الوجه يرجع الى أنَّ معنى العلم الإجمالي وحقيقته هي علم بالجامع ولكن بشرط لا من حيث السراية الى الأطراف، ومن الواضح أنَّ كون العلم واقفاً على الجامع يستلزم الركن الثاني.
وهذا الوجه إنما يتم إذا فرضنا أنَّ المعلوم بالإجمال لم تؤخذ فيه خصوصية زائدة غير مأخوذة في المعلوم بالتفصيل، كما لو فرضنا أنه علم بموت أحد شخصين ثم علم تفصيلاً بموت أحدهما، فالمعلوم بالإجمال ليس فيه خصوصية أزيد مما فرض في المعلوم بالتفصيل، في مقابل ذلك أن يعلم بموت أحد شخصين بالكهرباء مثلاً، فهذه خصوصية زائدة أخذت في المعلوم بالإجمال دون المعلوم بالتفصيل وهو موت أحدهما فقط – أي دون هذه الخصوصية -، فهذا الدليل إنما يتم بناءً على فرض عدم أخذ خصوصية في المعلوم بالإجمال غير مأخوذة في المعلوم بالتفصيل، وذلك باعتبار أنَّ فرض العلم التفصيلي بأحد الطرفين مع عدم وجود خصوصية في المعلوم بالإجمال يستلزم سريان العلم من الجامع الى الفرد فلا يبقى علم بالجامع، ولا يكون مقترناً باحتمال الانطباق في كِلا الطرفين.
وأما إذا فرضنا أخذ خصوصية في المعلوم بالإجمال لم تؤخذ في المعلوم بالتفصيل فلا يتم هذا الوجه على الانحلال لأنَّ افتراض الخصوصية تمنع من سريان العلم الإجمالي الى الفرد، ويبقى احتمال الانطباق في الطرف الآخر موجوداً، فلا يكون موجباً لانحلال العلم الإجمالي.