الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

45/10/28

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/ تنبيهات العلم الإجمالي / التنبيه الثاني إنحلال العلم الإجمالي

كان الكلام في أنَّ سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز في الشبهات غير المحصورة هل يعني تنزيل العلم منزلة العدم فيبقى الشك ويلحقه حكمه، أو يعني تنزيل المعلوم منزلة العدم؟

وتقدم أنه بحسب مسلك المحقق النائيني قده لا بد من اختيار الأول، والسر فيه هو أنَّ العلم الإجمالي يوجب سقوط حرمة المخالفة القطعية لعدم قدرة المكلف عليها، ويسقط بالتبع وجوب الموافقة القطعية، وهو معنى سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز، هذا غاية ما يقتضيه مبناه وهو تنزيل العلم منزلة العدم، أي لا أثر للعلم الإجمالي فلا يترتب عليه لا حرمة المخالفة القطعية ولا وجوب الموافقة القطعية، لكنه اختار الثاني!

وبناءً عليه لا بد أن يحتاط في مثال الماء المضاف لأنَّ مسلكه يقتضي تنزيل العلم منزلة العدم فيحصل شك بدوي غير مقرون بالعلم الإجمالي فيلحقه حكم الشك، لكن حكمه يختلف باختلاف الموارد، وفي هذا المثال حكمه الاشتغال لدلالة الأدلة على لزوم إحراز إطلاق الماء حتى يصح الوضوء به ومع الشك لا يجوز الوضوء به، فلا بد من الاحتياط وترك الوضوء بهذا الاناء المشكوك في اطلاقه واضافته.

وكذلك لا بد من الالتزام بالاحتياط فيما إذا كان المستند في سقوط العلم الإجمالي هو إطلاق دليل الأصل باعتبار عدم المنافاة بين الترخيص الظاهري وبين التكليف المعلوم بالإجمال، وذلك باعتبار عدم إمكان التمسك بدليل الأصل لإثبات جواز الوضوء بهذا الماء المشكوك، لأنَّ المفروض أنَّ الأدلة دلت لزوم إحراز إطلاق الماء للوضوء به، ومعه لا يمكن أن يجري الأصل المؤمِّن لإثبات الترخيص.

نعم بناءً على أنَّ المستند في سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز هو الاطمئنان بعدم الانطباق فقد يقال بأنه يجوز الوضوء بهذا الطرف لأنَّ الاطمئنان بعدم الانطباق يعني الاطمئنان بعدم كونه مضافاً وهو كالعلم بعدم الانطباق فيجوز الوضوء به، وأما إذا قلنا بأنَّ الاطمئنان لا يمنع من وجود الشك فليس كالعلم من هذه الجهة، فقد يقال بأنَّ حكمه هو حكم الشك ايضاً وهو الاشتغال في هذا المثال.

الثالث شبهة الكثير في الكثير

ما تقدم من الكلام كان في الشبهات غير المحصورة وهي شبهة القليل في الكثير، كالعلم بنجاسة إناء واحد ضمن 1000إناء، وأما هنا فيفترض العلم بنجاسة 500 إناء ضمن 1500 إناء مثلاً، وهذه أطراف كثيرة والمعلوم بالإجمال كثير أيضاً، ويصطلح عليها بشبهة الكثير في الكثير، فهل يجري على هذه الشبهة حكم الشبهة غير المحصورة أم يجري عليها حكم الشبهة المحصورة؟

الجواب: هذا يختلف باختلاف الوجوه التي يستند اليها في سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز، فإذا قلنا بالوجه الأول وهو الاطمئنان بعدم الانطباق فلا بد أن نجري على الشبهة محل الكلام حكم الشبهة المحصورة من حيث وجوب الموافقة القطعية وحرمة المخالفة القطعية، بمعنى عدم سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية، وذلك باعتبار قوة احتمال التكليف في كل طرف من أطراف هذه الشبهة فإنَّ النسبة هنا هي 1/ 3 وأما هناك فالنسبة هي 1/1000، وهذا يعني عدم وجود اطمئنان بعدم الانطباق في كل طرف فتكون كالشبة المحصورة ويجب فيها الاحتياط.

ونفس الكلام يقال بناءً على الوجه القائل بعدم التنافي بين الترخيص الظاهري وبين التكليف الالزامي المعلوم بالإجمال فيمكن الترخيص في الأطراف، وتقدم توضيح هذا المستند وقلنا أنَّ المنافاة فيه ليست عقلاً وإنما المنافاة بنظر العقلاء، بمعنى أنَّهم لا يقبلون الترخيص الظاهري مع العلم إجمالاً بالتكليف الالزامي، ولكن ذلك في الشبهة المحصورة، بمعنى أنهم لا يرون ذلك من موارد تقديم الأغراض الترخيصية على الأغراض اللزومية بل يرون تقديم الغرض اللزومي والاحتياط على الأغراض الترخيصية وإن فاتت ولكن ذلك في أطراف قليلة مراعاة للغرض اللزومي، وهذا هو الفارق بين الشبهة المحصورة وبين الشبهة غير المحصورة بنظر العقلاء إذ لا يرون في الثانية مانعاً من الترخيص الظاهري في الأطراف وتقديمها على الغرض اللزومي المعلوم بالإجمال، وحينئذٍ يقال في محل الكلام:

إنَّ الأغراض اللزومية في شبهة الكثير في الكثير لما كانت كثيرة فيلزم من تقديم الأغراض الترخيصية عليها تفويت أغراض لزومية كثيرة فلا بد من التعامل معها كالتعامل مع الشبهة المحصورة من منع تقديم الغرض الترخيصي على الغرض الالزامي فلا بد من الاحتياط.

وأما بناءً على مسلك المحقق النائيني قده الذي يقول أنَّ المستند هو عدم قدرة المكلف على المخالفة القطعية، فكون هذه الشبهة محصورة أو غير محصورة يدور مدار إمكان المخالفة القطعية وعدم إمكانها، وهذا يختلف باختلاف الموارد، ففي المثال السابق قد يقال لا يمكن المخالفة القطعية عادة لأنها لا تتحقق إلا بارتكاب 1001 إناء وهي أطراف كثيرة لا يتمكن المكلف عادة من ارتكابها فيكون حكمها حكم الشبهة غير المحصورة في سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز، وأما إذا فرضنا أنه علم بنجاسة 50 إناء من 100 فقد يقال أنه يتمكن من ارتكاب 51 وهو يعني تحقق المخالفة القطعية فيكون حكمها حكم الشبهة المحصورة ولا يسقط العلم الإجمالي عن المنجزية.

هذا تمام البحث عن الشبهة غير المحصورة، وهو التنبيه الأول من تنبيهات العلم الإجمالي.

التنبيه الثاني انحلال العلم الإجمالي:

إذا فرضنا أنَّ العلم الإجمالي تعلَّق بحكم إلزامي مردد بين طرفين وحصل للمكلف ما يوجب ثبوت التكليف في أحدهما كالعلم التفصيلي أو الأمارة المعتبرة أو أصل عملي يثبت التكليف فيقع الكلام في أنَّ هذا الثبوت هل يوجب انحلال العلم الإجمالي حقيقة أو حكماً أو لا يوجبه أصلاً ؟

فالكلام يقع تارة في الانحلال الحقيقي بمعنى زوال العلم الإجمالي حقيقة، وأخرى في انحلاله حكماً أي بطلان منجزيته مع بقائه حقيقة، وأثر هذا الانحلال هو جواز إجراء الأصل المؤمِّن في الطرف الآخر لأنَّ احتمال التكليف فيه غير مقرون بالعلم الإجمالي، فالكلام يقع في مقامين رئيسيين: الأول في الانحلال الحقيقي والثاني في الانحلال الحكمي.

 

المقام الأول في الانحلال الحقيقي

وهنا حالتان لا بد من التمييز بينهما:

الحالة الأولى: ما إذا فرضنا أنَّ العلم التفصيلي الذي يقوم على ثبوت التكليف في أحد الطرفين المعين أو الأمارة المعتبرة كذلك كانا في مقام تعيين المعلوم بالإجمال في هذا الطرف، وليس في مقام إثبات التكليف فقط، وهنا لا إشكال ولا خلاف في انحلال العلم الإجمالي حقيقة وليس هذا محل النزاع، لأن هذا العلم التفصيلي الوجداني أو التعبدي ينفي الشك والترديد عند المكلف حقيقة.