الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

45/10/27

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/ تنبيهات العلم الإجمالي / التنبيه الأول

تنبيهات في الشبهة غير المحصورة:

الأول: هل حكم العلم الإجمالي بالوجوب كحكم العلم الإجمالي بالتحريم؟

كان الكلام فيما تقدم في فرض الشبهة التحريمية مع كثرة الأطراف، فهل حكم الشبهة الوجوبية هو نفس حكم الشبهة التحريمية؟

فلو فرضنا أنه وجب على المكلف إكرام عالم وتردد بين كثيرين، أو وجب عليه أن يصلي في مسجد وتردد بين مساجد كثيرة، فالكلام في أنَّ هذا العلم الإجمالي هل يُنجِّز وجوب الموافقة القطعية بأن يكرم جميع العلماء وأن يصلي في جميع المساجد أو لا؟

ذكر المحقق النائيني قده بأنَّ الأحكام السابقة لا تجري في الشبهة الوجوبية وتختص بالشبهة التحريمية انطلاقاً من مبناه في ميزان الشبهة غير محصورة وهو عدم التمكن من المخالفة القطعية، وهو لا يتحقق إلا في الشبهة التحريمية، لأنَّ المخالفة القطعية فيها تستلزم أن يرتكب المكلف جميع الأطراف وهو غير قادر على ذلك لكثرتها، وأما في الشبهة الوجوبية فهو قادر دائماً على المخالفة القطعية لأنها تتحقق بترك الجميع وهو مقدور له.

وكأنه يريد أن يقول إنَّ الشبهة الوجوبية دائماً تكون محصورة أو ملحقة بها حكماً، فتحرم المخالفة القطعية بل تجب الموافقة القطعية كما هو الحال في الشبهة المحصورة، نعم لو فُرض أنَّ الموافقة القطعية غير مقدورة له فلا تجب عليه، ويمكن افتراض ذلك بأن لا يتمكن من إكرام جميع العلماء أو الصلاة في جميع المساجد، وأما حرمة المخالفة القطعية فلا موجب لارتفاعها عنه بعد قدرته عليها.

ومن الواضح أنَّ هذا الاختصاص الذي ذكره لا يتم على الوجوه الأخرى المتقدمة في عدم منجزية العلم الإجمالي، مثلاً بناءً على أنَّ المستند في عدم المنجزية هو الاطمئنان بعدم الانطباق فإنه يقال لا فرق بين الشبهتين من هذه الجهة، ففي الشبهة الوجوبية يحصل الاطمئنان بعدم الانطباق أيضاً، فإنَّ نسبة احتمال الانطباق على هذا المسجد من بين 1000 مسجد في المدينة هي 1/1000 فيحصل اطمئنان بعدم الانطباق التكليف المعلوم بالإجمالي على هذا الطرف كما هو الحال في الشبهة التحريمية.

وكذلك الحال إذا كان المستند هو قاعدة لا حرج فإنها جارية كلما تحقق موضوعها، فإذا لزم الحرج من وجوب الموافقة القطعية في الشبهة الوجوبية بأن يصلي في جميع المساجد ارتفع هذا الوجوب، كما هو الحال في الشبهة التحريمية، وكذا الكلام في حرمة المخالفة القطعية، فإذا فرضنا أنه يلزم منها وقوع المكلف في العسر والحرج فترتفع حرمة المخالفة القطعية.

وهكذا الحال إذا كان المستند هو دعوى عدم التنافي بين الترخيص الظاهري وبين الحكم الواقعي المعلوم بالإجمال، وهذا شامل لموارد العلم الإجمالي ولا يُفرَّق فيه بين الشبهة التحريمية وبين الشبهة الوجوبية، فحيث لا يعلم المكلف بالوجوب يُجعل له الترخيص كما يجعل له الترخيص حيث لا يعلم بالحرمة، وهذا ترخيص في الأطراف ولا ينافي التكليف المعلوم بالإجمال بحسب الفرض.

والخلاصة إنَّ الشبهة الوجوبية كالشبهة التحريمية من حيث الأحكام في الشبهات غير المحصورة إلا على مبنى المحقق النائيني قده.

الثاني: ذكر السيد الخوئي قده - تبعاً لأستاذه المحقق النائيني قده - أنه بناءً على عدم منجزية العلم الإجمالي في الشبهات غير المحصورة هل مقتضى ذلك فرض وجود العلم كعدمه فيجري حكم الشك البدوي في كل واحد من الأطراف، أو أنَّ مقتضى ذلك هو فرض المعلوم كعدمه، فلا اشتباه ولا شك في كل طرف، وتكون الشبهة كعدمها والشك كعدمه، قولان:

والظاهر أنَّ الثمرة لا تظهر إذا كان حكم الشك هو البراءة لأنه على كِلا القولين تجري البراءة، فيحكم بالطهارة في مثال النجاسة، أما على القول الأول – أي تنزيل العلم منزلة عدمه – فالبراءة وأصالة الطهارة هي الجارية، لأنَّ المفروض أنَّ حكم الشك هو البراءة.

وأما على الثاني – أي تنزيل المعلوم منزلة العدم – فلازمه عدم الشك وعدم الاشتباه، ومع عدم الشك بالنجاسة يحكم بالطهارة أيضاً، فالبراءة جارية على كِلا القولين.

وإنما تظهر الثمرة إذا كان حكم الشك في الطرف في حد نفسه هو الاشتغال، فعلى القول الأول لا بد من الاحتياط لأنَّ الشك باق وحكمه الاشتغال بحسب الفرض، وإن قلنا بالثاني فيحكم بالبراءة لانتفاء الشك، ويمثل لذلك بما إذا علم إجمالاً بوجود مائع مضاف بين 1000 إناء لأنَّ حكم الشك في كون المائع مضافاً أو مطلقاً هو الاشتغال إذ لا بد من إحراز إطلاق الماء حتى يصح الوضوء به، فعلى الاحتمال الأول يحصل الشك غير المقرون بالعلم الإجمالي فيتعين الحكم بعدم صحة الوضوء به، وعلى الثاني ينتفي أصل الشك وينزل منزلة العدم ومعه لا بد من الحكم بجواز الوضوء بكل طرف.

وذكر المحقق النائيني قده بأنَّ ظاهر كلمات الفقهاء هو الثاني - أي تنزيل المعلوم منزلة العدم - ثم عقب عليه بما يُفيد اختياره له، والكلام يقع في أنَّ اختياره هنا هل ينسجم مع مبانيه أو لا؟

تقدم أنه يبني على سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية في الشبهة غير محصورة لأنَّ الملاك في عدم تنجيز حرمة المخالفة القطعية فيها هو عدم قدرة المكلف على المخالفة القطعية، ويتفرع عليه عدم وجوب الموافقة القطعية، وغاية ما يقتضيه هو أنَّ العلم الإجمالي في المقام بحكم العدم، وهو القول الأول، وأما تنزيل المعلوم بالإجمال منزلة العدم فلا يقتضيه، فتصحيحه واختياره للقول الثاني لا ينسجم مع مبانيه في سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز.