45/10/19
الموضوع: الأصول العملية/ تنبيهات العلم الإجمالي / التنبيه الأول
كان الكلام في الجواب الحلَّي الذي ذكره السيد الخوئي قده نقلاً عن استاذه المحقق النائيني قده وحاصله هو أنَّ المحذور العقلي باق بالرغم من أنَّ إجراء الأصول لا يؤدي الى محذور الترخيص في المخالفة القطعية، وذلك لأنه يلزم محذور عقلي آخر وهو الترخيص القطعي في المخالفة، وهو يمنع من إجراء الأصول في جميع الأطراف، وبالتالي يمنع من سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية.
وتقدمت الملاحظة عليه بأنَّ محذور الترخيص القطعي في المخالفة مبني على افتراض المنافاة بين الحكم الواقعي المعلوم بالإجمال وبين الترخيص الظاهري في جميع الأطراف، فإذا ثبت أحدهما استحال الآخر، وحيث أنَّ الحكم الواقعي المعلوم بالإجمال ثابت بحسب الفرض فيكون الترخيص في الأطراف محالاً.
والسؤال هنا هل هناك منافاة بينهما؟
الجواب أما في عالم الجعل فلا منافاة، لأنَّ الجعل المجرد عن مبادئه وعما يتطلبه في مقام الامتثال سهل المؤونة، وكذا لا تنافي في عالم المبادئ، أما قول السيد الخوئي قده من أنَّ مبادئ الأحكام الظاهرية قائمة في نفس جعلها فعدم التنافي يكون واضحاً، فإنَّ التنافي إنما يتم مع وحدة الموضوع بأن يتعلق به مبدأ الحكم الالزامي ومبدأ الحكم الترخيصي فيقع التنافي بلحاظ عالم المبادئ إذا لا يمكن أن يكون الشيء الواحد فيه مصلحة ملزمة - وهي مبدأ الحكم الالزامي - وفيه مصلحة إطلاق العنان - وهي مبدأ الحكم الترخيصي – وهذا غير متحقق على مبناه لأنَّ مبدأ الحكم الواقعي قائم في المتعلق ومبدأ الحكم الظاهري قائم في الجعل، وعليه لا معنى للتنافي بين الحكمين بلحاظ عالم المبادئ، بل يمكن الجمع بينهما كما هو واضح.
ونفس الكلام يقال على الرأي الآخر الذي يتبناه السيد الشهيد قده القائل بأنَّ الأحكام الظاهرية ليس لها مبادئ مستقلة في قبال مبادئ الأحكام الواقعية، وإنما هي تعبير عن أهمية المبادئ الواقعية المتزاحمة مع مبادئ واقعية أخرى في مقام الحفظ التشريعي، فالاحتياط الظاهري تعبير عن أهمية الأحكام الإلزامية الواقعية عندما تتزاحم مع الأحكام الترخيصية الواقعية وبه يُحفظ الغرض الالزامي، كما أنَّ البراءة الظاهرية تعبير عن أهمية الأحكام الترخيصية المتزاحمة مع الأحكام اللزومية بنظر الشارع وبها يُحفظ الغرض الترخيصي.
نعم لا إشكال في أنَّ جعل الاحتياط يستلزم أحياناً فوات المصالح الترخيصية، وكذا جعل البراءة يستلزم أحياناً فوات المصالح الإلزامية ولكن ذلك مراعاةً للأهم من بين المبادئ المتزاحمة ولا إشكال فيه، وبناءً عليه لا منافاة أيضاً لأنَّ الأحكام الظاهرية ليس لها مبادئ غير مبادئ الأحكام الواقعية، بمعنى أنه لا يوجد محذور عقلي من اجتماع الحكم الواقعي المعلوم بالإجمال مع الترخيص الظاهري في جميع الأطراف، هذا بلحاظ عالم المبادئ.
أما مقام الامتثال فما يترتب على التكليف المعلوم بالإجمال هو عبارة عن شيئين حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية، أما حكم العقل بحرمة المخالفة القطعية فهو في محل الكلام من السالبة بانتفاء الموضوع، لأنَّ المفروض هنا أنَّ الترخيص في الأطراف لا يؤدي الى المخالفة القطعية لعدم قدرة المكلف عليها لكثرة الأطراف فلا يكون هذا الترخيص منافياً لحكم العقل بحرمة المخالفة القطعية.
وأما حكم العقل بوجوب الموافقة القطعية فعدم المنافاة بين الحكم الواقعي وبين الترخيص في جميع الأطراف يكون أوضح وذلك باعتبار ما تقدم من أنَّ حكم العقل بوجوب الموافقة القطعية هو حكم على نحو الاقتضاء وليس على نحو العلية التامة، بمعنى أنه معلّق دائماً على عدم ورود الترخيص من قِبل الشارع، أي يمكن التفكيك بين العلم الإجمالي وبين وجوب الموافقة القطعية وذلك بترخيص الشارع بارتكاب الأطراف، والمفروض أنَّ الشارع رخَّص في محل الكلام ومعه لا يؤثر العلم الإجمالي في وجوب الموافقة القطعية حتى يكون الترخيص في جميع الأطراف منافياً للتكليف المعلوم بالإجمال.
وعليه لا يوجد محذور عقلي من جريان الأصول المؤمِّنة في جميع الأطراف في موارد العلم الإجمالي بالتكليف.
محذور آخر:
نعم يُدعى في المقام وجود محذور عقلائي وإن لم يوجد محذور عقلي، فإنَّ العقلاء لا يستسيغون الترخيص في جميع أطراف العلم الإجمالي لأنَّهم يرون المنافاة والمناقضة بين الترخيص في جميع الأطراف وبين الحكم الواقعي الالزامي الواصل الى المكلف اجمالاً، كالمنافاة بين الحكم الواقعي الواصل تفصيلاً وبين الترخيص في متعلقه، وذلك لأنهم يرون أنَّ الأغراض الترخيصية إنما تُقدم على الأغراض اللزومية إذا كانت الأخيرة محتملة لا ما إذا كانت معلومة وواصلة ولو إجمالاً.
وفيه : أنَّ هذا المحذور حتى لو قلنا به لكن المدعى بأنه يرتفع عندما تكون الأطراف كثيرة جداً كما في المقام، إذ لا يوجد في ارتكازات العقلاء ما يمنع من تقديم الأغراض الترخيصية على الغرض اللزومي الواحد المتشبه بين الأطراف الكثيرة، ولو باعتبار أنَّ التحفظ على الغرض اللزومي في هذه الحالة يستلزم تفويت أغراض ترخيصية كثيرة على المكلف، بمعنى أنه يلزمه بترك مباحات واقعية كثيرة، أي إلزام المكلف بالاحتياط وترك جميع الأطراف، وهذا بخلاف ما إذا كانت الأطراف قليلة فإنَّ تقديم الغرض اللزومي- أي إلزام المكلف بالاحتياط وترك الأطراف - لا يستلزم إلا تفويت أغراض ترخيصية قليلة، فبهذا الاعتبار يمكن أن يقال أنَّ هذا المحذور العقلائي غير موجود في محل الكلام أيضاً.