الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

45/10/15

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/ تنبيهات العلم الإجمالي / التنبيه الأول

المورد الثاني للتعارض ما قيل من أنَّ البناء على حجية كِلا الدليلين في موارد العلم الإجمالي يلزم منه الترخيص في المخالفة القطعية، ومثلنا له بما إذا دلَّ دليل على حلية شيء ودلَّ دليل آخر على حلية شيء آخر ولكن علمنا إجمالاً بحرمة أحدهما فيلزم من البناء على حجية كِلا الدليلين في الطرفين الترخيص في المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال، قالوا يقع التعارض بين هذين الدليلين ويتساقطان.

والتعارض والتساقط هنا ثابت بقطع النظر عن مسألة التكاذب بين الدليلين وإنما هو باعتبار أنَّ حجية كِلا الدليلين يلزم منها الترخيص في المخالفة القطعية، وهذا بخلاف مثال الظهر والجمعة فإنَّ التعارض والتساقط فيه قائم على أساس التكاذب بين الدليلين لا على أساس لزوم الترخيص في المخالفة القطعية، لوضوح أنَّ البناء على حجية كِلا الدليلين لا يؤدي الى الترخيص في المخالفة القطعية، وإنما هو قائم على أساس التكاذب بين الدليلين لأنَّ الدليل الدال على وجوب أحداهما دال بالالتزام على نفي وجوب الأخرى.

والمجيب يقول إنَّ هذا السبب للتعارض غير متحقق في محل الكلام أيضاً وذلك باعتبار أنَّ حجية هذه الاطمئنانات لا تؤدي الى الترخيص في المخالفة القطعية، لأنَّ حجية هذه الاطمئنانات في كل طرف ثابتة ببناء العقلاء، وبناء العقلاء على حجية الاطمئنان معناه أنَّ احتمال عدم التكليف في هذا الطرف لا يوجد في مقابله إلا احتمال التكليف وهو احتمال ضئيل جداً، فيكون احتمال عدم التكليف قوي جداً وهو معنى حجية الاطمئنان، فيُقدم العقلاء على ارتكابه استناداً الى هذا الاطمئنان.

وهذا الاطمئنان يكون موجوداً بالنحو المتقدم إذا أراد المكلف ارتكاب طرف واحد، وأما إذا أراد ارتكاب أكثر من طرف واحد فلا يأتي ما ذُكر لتجويز ارتكاب هذه الأطراف لوضوح أنَّ احتمال التكليف في هذه الأطراف يكون أكبر قيمة من احتماله في طرف واحد، فإذا أراد ارتكاب عشرة أطرف مثلاً فإنَّ احتمال التكليف فيها يكون بنسبة 10/1000، وهكذا كلما إزداد عدد الأطراف التي يريد ارتكابها كلما زادت قيمة احتمال وجود التكليف فيها، وهذا معناه أنَّ احتمال التكليف في هذه الأطراف قد لا يقابله اطمئنان بعدم التكليف، ويترتب على ذلك أنَّ دليل حجية الاطمئنانات - وهو بناء العقلاء بحسب الفرض - لا يقتضي أكثر من الحجية البدلية لها أي حجية واحد منها على البدل لا الحجية الشمولية أي حجية جميع هذه الاطمئنانات حتى يلزم من حجيتها الترخيص في المخالفة القطعية.

ومن هنا يظهر أنَّ السبب للتعارض غير متحقق في المقام كالسبب الأول، فلا يتم هذا الاعتراض، بمعنى أنَّ الاطمئنان بعدم الانطباق في هذا الطرف حجة ويمكن الاستناد إليه في ارتكابه، ومقتضى ذلك عدم وجوب الموافقة القطعية، وهو معنى أنَّ كثرة الأطراف توجب سقوط العلم الإجمالي عن تنجيز وجوب الموافقة القطعية.

هذه هي الاعتراضات الثلاثة على الدليل الأول.

وقد تبين مما تقدم عدم تمامية الاعتراض الثاني والثالث.

أما الاعتراض الأول القائل بأنَّ الاطمئنان إنما يكون حجة في غير محل الكلام لأنَّ العقلاء يلاحظون أهمية المحتمل فيقولون بحجيته في القضايا التي ليس لها أهمية خاصة كالأغراض الدنيوية، فإذا حصل الاطمئنان بعدم الضرر الدنيوي أقدموا على ارتكابه، وأما إذا كان المحتمل مهماً كالضرر والعقاب الأخروي فلا يبنون على حجية الاطمئنان بعدم العقاب، بل يعتنون باحتماله ولو كان ضعيفاً أخذاً بأهمية المحتمل، ومحل الكلام من هذا القبيل لأنَّ احتمال التكليف في كل طرف ولو كان ضعيفاً لكنه يستلزم احتمال العقاب على المخالفة.

وتقدم الجواب عليه، ونريد الآن إعادة النظر فيه:

أما الجواب فحاصله أنَّ الشيخ الأنصاري لا يريد التمسك بالاطمئنان بعدم العقاب حتى يقال أنَّ العقلاء لا يعتنون به وإنما يعتنون باحتمال العقاب الموجود في مقابله فلا يصح أن يكون مستنداً للاقتحام وارتكاب هذا الطرف، وإنما يريد الاستناد الى القطع بعدم العقاب المتولد من امضاء الشارع لسيرة العقلاء القائمة على حجية الاطمئنان بعدم التكليف المستكشف من عدم ردعه، ومعه يكون الاطمئنان بعدم التكليف حجة ومؤمناً شرعاً فيحصل القطع بعدم العقاب.

ولكن يمكن التأمل في هذا الجواب لأنه أشبه بالمصادرة، لأنَّ المعترض لا يُسلَّم أنَّ الاطمئنان بعدم التكليف حجة عند العقلاء مطلقاً حتى يقال أنَّ الشارع أمضاه فيكون مؤمِّناً فيستلزم القطع بعدم العقاب، بل يقول إنَّ الاطمئنان يرتبط بأهمية المحتمل، بل ينكر أن يكون الاطمئنان بعدم التكليف بخصوصه حجة، وإنما يكون حجة إذا كان اطمئناناً بعدم الضرر الدنيوي، وعليه لا بناء من قِبل العقلاء على عدم التكليف حتى يُدعى الإمضاء له، وذلك لأنَّ الاطمئنان بعدم التكليف يعني الاطمئنان بعدم العقاب وهذا يعني أنَّ احتمال العقاب موجود فيعتني به العقلاء لأهميته وإن كان ضئيلاً ولا يبنون على حجية الاطمئنان بعدمه، ولذا لا يكون هذا الجواب تاماً

وعليه فالظاهر أنَّ الاعتراض الأول على الدليل الأول تام.