45/10/07
الموضوع: الأصول العملية/ أصالة الاحتياط / المقام الثالث
النتيجة:
يتبين من كل ما تقدم أنَّ الصحيح هو أنَّ العلم الإجمالي علة تامة لحرمة المخالفة القطعية ولكنه ليس علة تامة لوجوب الموافقة القطعية، ويترتب عليه:
إذا قلنا بعدم وجود مانع إثباتي من شمول دليل الأصل المؤمِّن لبعض الأطراف وإنما المانع هو المعارضة فقط فتجب الموافقة القطعية لإنَّ احتمال التكليف في كل طرف يبقى بلا مؤمِّن، ولو فُرض عدم جريان الأصل المؤمِّن في أحد الطرفين لأي سبب فلا مانع من شمول دليل الأصل للطرف الآخر.
وأما إذا قلنا بوجود مانع إثباتي لشمول دليل الأصل لبعض الأطراف فيترتب عليه وجوب الموافقة القطعية لأنَّ احتمال التكليف في كل طرف يبقى بلا مؤمِّن، ولو فرض عدم جريان الأصل في أحد الطرفين فلا يجري في الآخر أيضاً لقصور في دليل الأصل عن شمول بعض الأطراف بحسب الفرض، لا للمعارضة حتى يقال بجريانه لو فرض عدم المعارض.
هذا تمام الكلام عن البحث في منجزية العلم الإجمالي.
تنبيهات العلم الإجمالي
ذكروا بعد البحث عن منجزية العلم الإجمالي جملة من التنبيهات ونحن نقتصر على المهم منها:
التنبيه الأول: في الشبهة غير المحصورة
المعروف والمشهور هو أنَّ العلم الإجمالي إنما يكون منجزاً لأطرافه بلحاظ وجوب الموافقة القطعية أو حرمة المخالفة القطعية فيما إذا كانت الأطراف محصورة وإما إذا لم تكن محصورة فيسقط عن التنجيز، والكلام يقع في مقامين:
الأول: في تحديد الشبهة غير المحصورة، وما هو الميزان في معرفة الشبهة المحصورة من غير المحصورة.
الثاني: في حكم الشبهة غير المحصورة من حيث حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية، وبعبارة أخرى هل تختلف الشبهة غير المحصورة عن الشبهة المحصورة في هذين الحكمين أو لا، بأن يقال إنَّ الشبهة المحصورة تحرم المخالفة القطعية فيها بل تجب فيها الموافقة القطعية، وأما غير المحصورة فلا تحرم المخالفة القطعية ولا تجب الموافقة القطعية فيها، أو يفصَّل بين حرمة المخالفة القطعية فيقال بثبوتها وبين وجوب الموافقة القطعية فيقال بعدم ثبوتها.
أما المقام الأول فقد ذكرت فيه عدة تحديدات وتعريفات للشبهة غير المحصورة:
التحديد الأول: قيل إنَّ الشبهة غير المحصورة هي الشبهة التي تشتمل على أطراف يعسر عدها، فعُسر العد هو الميزان.
ولكنه واضح الضعف لأنه غير منضبط فما يعسر عده في زمان قد لا يعسر عده في زمان أطول، فهذا الميزان غير واضح، مضافاً الى عدم وجود دليل واضح عليه.
التحديد الثاني: إنَّ الشبهة غير المحصورة هي ما يعسر موافقتها القطعية.
وهذا الميزان يختص بالشبهات الوجوبية لأنها هي التي يعسر موافقتها القطعية إذا كانت أطرافها كثيرة جداً، وأما الشبهات التحريمية فلا عُسر في موافقتها القطعية لأنَّ الموافقة القطعية تحصل بتركها جميعاً وهو غير عسير.
ويرد عليه:
أولاً: بأنَّ الملحوظ فيه عسر الموافقة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال فيسقط عن التنجيز لاستلزامه العسر والحرج، فيقال إنَّ هذا الميزان لا يختص بالشبهة غير المحصورة بل يتحقق حتى في الشبهة المحصورة بل حتى لو كانت أطرافها قليلة فإنَّ العسر والحرج يوجب سقوط وجوب الموافقة القطعية، فهذا الميزان غير مختص بالشبهة غير المحصورة ولا فارق، ومن هنا يفترق الحال فيما لو جعلنا الميزان هو كثرة الأطراف فقط.
وثانياً: إنَّ العسر والحرج إنما يرفع التكليف بمقدار الضرورة لا مطلقاً، فلو فرض أنَّ الأطراف مائة ويعسر موافقتها القطعية جميعاً ولكن قد لا تعسر الموافقة القطعية لبعضها، ومعه لا موجب لرفع التكليف عن جميع الأطراف، وهذا غير المدعى في المقام وهو عدم وجوب الموافقة القطعية مطلقاً ولجميع الأطراف.
التحديد الثالث: قالوا إنَّ الشبهة غير المحصورة هي ما لا يتمكن المكلف من مخالفتها القطعية، بعكس السابق، فيختص بالشبهات التحريمية لأنَّ المخالفة لها تكون بفعلها لا بتركها، فإذا كانت كثيرة جداً أمكن تصور عدم إمكان ارتكابها جميعاً، وهذا هو مختار المحقق النائيني قده.
وأورد عليه السيد الخوئي قده بعدة إيرادات:
الايراد الأول: إنَّ عدم التمكن من ارتكاب الجميع لا يلازم كون الشبهة غير محصورة فقد يتحقق ذلك مع قلة الأطراف وكون الشبهة محصورة كما إذا علمنا إجمالاً بحرمة الجلوس في أحد مكانين في ساعة معينة فالمخالفة القطعية بالجلوس في المكانين في تلك الساعة غير ممكنة مع كونها شبهة محصورة.
لكن هذا الإيراد صار محلاً لاستغراب من تأخر عنه لأنَّ المحقق النائيني صرَّح في أحد تقريريه[1] وهو ظاهر تقريره الآخر[2] بأنَّ الميزان هو اجتماع أمرين الأول كثرة الأطراف والثاني عدم التمكن من المخالفة القطعية، فلا يرد عليه ما ذُكر.
الايراد الثاني: إنَّ عدم القدرة على المخالفة القطعية يختلف باختلاف المعلوم بالإجمال، وباختلاف الأشخاص، وباختلاف قِصر الزمان وطوله، وغير ذلك من الخصوصيات، فليس له ضابط كلي، فما لا يمكن مخالفته في زمان محدد وعلى شخص ما قد يمكن مخالفته في نفس الزمان بالنسبة لشخص آخر، وهكذا بالنسبة الى المعلوم بالإجمال والزمان.
وأُجيب عنه: بأنَّ القدرة في محل الكلام هي القدرة العادية وهي كالقدرة العقلية في أنَّ كُلاً منهما تختلف باختلاف الخصوصيات، فقد لا يكون المكلف في زمان قصير قادراً عقلاً على فعل من الأفعال ولكنه يكون قادراً على نفس الفعل في زمان أطول، وقد لا يكون شخص قادراً على فعل ويكون شخص آخر بإمكانيات خاصة قادراً على نفس الفعل، ولكن هذا لا يوجب إبهاماً في القدرة العقلية ولا في القدرة العادية، فهذا الميزان يبقى واضحاً في القدرة العادية وهو أن يكون المكلف قادراً على المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال.
الإيراد الثالث: إنَّ عدم التمكن من المخالفة القطعية إذا أُريد به عدم التمكن منها دفعة واحدة فيرد عليه إنَّ كثيراً من الشبهات المحصورة هي كذلك، وإن أُريد منه عدم التمكن من المخالفة القطعية تدريجاً فقلَّما يحصل في الشبهة غير المحصورة فإنَّ كثيراً منها يمكن مخالفته تدريجاً.