الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

45/10/05

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/ أصالة الاحتياط / المقام الثالث

 

كان الكلام في الاشكال الذي وجهه المحقق العراقي على القائلين بالاقتضاء في مرحلة وجوب الموافقة القطعية، والذي يعني أنه لا مانع عقلاً من الترخيص في بعض الأطراف، أي عدم استحالة المخالفة الاحتمالية، لكن القائلين بالاقتضاء قالوا إنَّ وجوب الموافقة القطعية يثبت بطريق آخر وهو تعارض الأصول وتساقطها وذلك باعتبار أنَّ الأصل المؤمِّن في أحد الطرفين وإن كان لا مانع عقلاً من جريانه ولكنه معارض بالترخيص في الطرف الآخر ويتساقطان فيبقى احتمال التكليف في كل طرف بلا مؤمِّن فيتنجز، وهذا ما ينتج وجوب الموافقة القطعية ولكن لا لمجرد العلم الإجمالي وإنما لتعارض الأصول وتساقطها، ولذا لو فرض عدم وجود معارض للأصل الجاري في أحد الطرفين فلا مانع من جريانه ويثبت به الترخيص.

شبهة التخيير:

أشكل المحقق العراقي على المشهور بأنَّ كلامهم يترتب عليه أمران:

الأول اختصاص دليل الأصل المؤمِّن بغير موارد العلم الإجمالي، أي اختصاصه بموارد الشك البدوي.

الثاني وجوب الموافقة القطعية وذلك لبقاء احتمال التكليف في كل طرف بعد تعارض الأصول وتساقطها بلا مؤمِّن.

والشبهة التي أثارها المحقق العراقي تقول: بأنَّ الفرار عن هذا المحذور لا يتوقف على ما ذُكر من الأمرين وذلك لأنه يمكن الفرار من هذا المحذور برفع اليد عن إطلاق دليل الأصل في كلٍ من الطرفين لحالة ارتكاب الطرف الآخر مع بقائه شاملاً لكلا الطرفين ولكنه مقيداً بعدم ارتكاب الطرف الآخر، فدليل الأصل يشمل كل واحد من الطرفين ويدل على الترخيص فيه لكن بشرط عدم ارتكاب الطرف الآخر، فيثبت ترخيصان في الطرفين مشروطان بترك الطرف الآخر، ولازمه أن يكون المكلف مخيراً في ارتكاب أحد الطرفين مع ترك الآخر، ولا يؤدي الى الترخيص في المخالفة القطعية، فلا يثبت كِلا الأمرين، أما منع شمول أدلة الأصول المؤمِّنة لموارد العلم الإجمالي فلكافية رفع اليد عن إطلاق دليل الأصل دون أصل شموله، وأما وجوب الموافقة القطعية فلتخيير المكلف بين الطرفين بشرط ترك الطرف الآخر وهذا يعني عدم وجوب الموافقة القطعية.

والحاصل: إنَّ الفرار من هذا المحذور كما يحصل بما ذكروه من رفع اليد عن شمول الأصل المؤمِّن لأطراف العلم الإجمالي كذلك يحصل برفع اليد عن إطلاقه لحالة ارتكاب الآخر، وتقدم أنَّ الثاني هو المتعين، وعليه فلا يثبت كلا الأمرين المتقدمين، وعُرف هذا الاشكال بشبهة التخيير.

وقد تعرضنا الى هذا البحث فيما تقدم وقلنا ذكرت وجوه للجواب عن هذه الشبهة وذكرنا جملة منها، وقد تبين أنها غير تامة، فما هو الموقف من هذه الشبهة؟

والجواب لا بد من الالتزام بأحد أمور حذراً من الوقوع في محذور الترخيص في المخالفة القطعية:

الأول: الالتزام بأنَّ العلم الإجمالي علة تامة لوجوب الموافقة القطعية كما ذهب إليه المحقق العراقي.

الثاني: الالتزام بالاقتضاء في مرحلة وجوب الموافقة القطعية تبعاً للمشهور – وهو الصحيح – ولكن مع الالتزام بعدم جريان الأصل في بعض الأطراف لوجود محذور إثباتي، لا لأجل المعارضة.

الثالث: الالتزام بالاقتضاء مع الالتزام بعدم المانع من جريان الأصل في بعض الأطراف ثبوتاً وإثباتاً، ولكن الأصل لا يجري في بعض الأطراف من جهة التمسك ببعض الأخبار التي يظهر منها عدم جريان الأصل في بعض أطراف العلم الإجمالي، منها ما دلَّ على الأمر بإهراق الإناءين الذين يُعلم بنجاسة أحدهما ثم التيمم، الدال على عدم جواز المخالفة الاحتمالية، أي وجوب الموافقة القطعية.

أما الأخبار فهي:

الأولى: موثقة سماعة، وهي تامة سنداً ، يروها الشيخ الكليني (عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة قال : سألت أبا عبد الله ( عليه السلام ) عن رجل معه إناءان فيهما ماء ، وقع في أحدهما قذر لا يدري أيّهما هو ، وليس يقدر على ماء غيره ؟ قال : يهريقهما جميعاً ويتيمّم)[1]

الثانية: موثقة عمار الساباطي التي يرويها الشيخ الطوسي بسنده (عن أحمد بن محمّد بن الحسن بن علي بن فضّال ، عن عمرو بن سعيد ، عن مصدّق بن صدقة ، عن عمّار الساباطي ، عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) في حديث ، قال سُئل عن رجل معه إناءان فيهما ماء وقع في أحدهما قذر لا يدري أيهما هو ، ( وحضرت الصلاة ) ، وليس يقدر على ماء غيرهما ؟ قال : يهريقهما جميعاً ويتيمّم)[2]

الثالثة: (محمد بن الحسن بإسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى – صاحب نوادر الحكمة وهو ثقة وسند الشيخ اليه صحيح - ، عن محمد بن عيسى – أي ابن عبيد وهو ثقة - ، عن الرجل عليه ‌السلام ، أنّه سئل عن رجل نظر إلى راعٍ نزا على شاة ؟ قال إن عرفها ذبحها ، وأحرقها ، وإن لم يعرفها قسّمها نصفين أبداً ، حتّى يقع السهم بها ، فتذبح ، وتحرق ، وقد نجت سائرها)[3]

وهي تعني عدم جواز أكل واحدة منها إلا عن طريق تعيين الموطوءة منها بضرب السهام.

 


[1] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج3، ص345، أبواب الطهارة أبواب الماء المطلق، باب8، ح2، ط آل البيت.
[2] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج3، ص345، أبواب التيمم، باب4، ح1، ط آل البيت.
[3] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج24، ص169، أبواب الأطعمة المحرمة، باب30، ح1، ط آل البيت.