45/08/16
الموضوع: الأصول العملية/ أصالة الاحتياط / المقام الثالث
مسألة جعل البدل:
كل ما ت قدم كان بقطع النظر عن مسألة جعل البدل، وهي مسألة ذكرها كل من الطرفين المتنازعين في محل الكلام، فقد ذكرها المحق النائيني مستدلاً بها على عدم العلية التامة، كما ذكرها المحقق العراقي أيضاً ولكن على أنها لا تصلح أن تكون دليلاً على عدم العلية التامة بل هي في الواقع التزام بعلية العلم الاجمالي لوجوب الموافقة القطعية.
إلا أنَّ المحقق العراقي يُفسر الموافقة القطعية بالموافقة الأعم من الموافقة الوجدانية والموافقة التعبدية، بل يظهر أنَّ المحقق النائيني لا يُنكر ذلك، نعم إذا أريد من الموافقة خصوص الموافقة الوجدانية فالعلم الإجمالي لا يكون علة تامة لوجوب الموافقة القطعية الوجدانية بدليل جعل البدل عن الواقع شرعاً لأنه يعني التفكيك بين العلم الإجمالي وبين الموافقة القطعية الوجدانية، وعليه فالمسألة منوطة بالمقصود من الموافقة القطعية التي يكون العلم الإجمالي علة تامة لوجوبها أو لا يكون كذلك
وعلى كل حال الطرفان يتفقان على إمكان الترخيص في بعض الأطراف بجعل البدل بمعنى أنه متى ما جعل المولى أحد الطرفين بدلاً عن الواقع واكتفى بامتثاله أمكن الترخيص في الطرف الآخر، إلا أنهما يختلفان فيما يُحقق ذلك، فهل يكفي في جعل البدل مجرد جريان الأصل في أحد الطرفين أو لا يكفي فيه ذلك بل لا بد من قيام أمارة أو نحوها على ذلك، من قبيل (بلى قد ركعتَ) في الواردة في دليل قاعدة التجاوز؟
ظاهر المحقق النائيني هو الأول وأنَّ جريان الأصل في أحد الطرفين بلا معارض يساوق جعل الآخر بدلاً عن الواقع وبالتالي حصول الموافقة القطعية التعبدية، ولذا قال: (فيجوز للشارع الترخيص في بعض الأطراف والاكتفاء عن الواقع بترك الآخر سواء كان الترخيص واقعياً كما إذا اضطر الى ارتكاب بعض الأطراف - المعين - أو ظاهرياً كما إذا كان في بعض الأطراف أصلٌ منافٍ للتكليف غير معارض بمثله.)[1]
ثم قال:(والحاصل أنَّ الذي لا بد منه عقلاً هو القطع بالخروج عن عهدة التكليف...وهذا كما يحصل بالموافقة القطعية الوجدانية ...كذلك يحصل بالموافقة القطعية التعبدية)[2]
ثم قال: (بل نفس الإذن في البعض يستلزم بدلية الآخر قهراً)3
من هنا نفهم أنَّ المحقق النائيني يرى إمكان استفادة جعل البدل من مجرد جريان الأصل النافي في أحد الطرفين بلا معارض، وهذا يتحقق فيما إذا تنجز التكليف في أحد الطرفين بالعلم أو العلمي أو بالأصل الشرعي أو العقلي فإنه حينئذٍ يجري الأصل النافي في الطرف الآخر بلا معارض ويستكشف منه جعل البدل.
نعم هذا الكلام منه ينافي ما يظهر من بعض كلماته من القول بعدم الاقتضاء في الجهة الأولى لأنه بناءً عليه لا نحتاج مسألة جعل البدل لكي نتعقل جريان الأصل في أحد الطرفين إذ يكفي في ذلك حينئذٍ عدم المعارض فقط.
وأما المحقق العراقي فهو وإن كان يتفق مع المحقق النائيني في كبرى إمكان جعل البدل لكنه لا يرى كفاية جريان الأصل في أحد الطرفين مع عدم المعارض في جعل البدل بل لا بد من قيام دليل عليه من علم أو علمي.
والوجه في ذلك هو أنه إن كان المدعى هو أنَّ نفس الأصل يدل على جعل الآخر بدلاً فهو غير صحيح لأنَّ مفاده المطابقي هو البراءة والتأمين في هذا الطرف لا جعل الآخر بدلاً فهو لا يدل على جعل الآخر مطابقة، بل ولا التزاماً، وتوضيح ذلك:
قد يدعى أنَّ الأصل يدل على جعل البدل بالدلالة الإلتزامية بتقريب أنَّ الأصل إذا كان لسانه أنَّ هذا الطرف حلال واقعاً كما إذا كان أصلاً تنزيلياً فلازمه كون الآخر حراماً للعلم الإجمالي بحرمة أحد الطرفين.
وجوابه إنَّ ذلك من التمسك بالأصل لإثبات مدلوله الإلتزامي فيكون مثبتاً.
وإن كان المدعى هو أنَّ دليل الأصل - وهو أمارة - يدل بالالتزام على جعل البدل في المرتبة السابقة على جعل الأصل، لأنَّ المفروض أنَّ الأصل لا يجري في الطرف إلا مع فرض جعل الطرف الآخر بدلاً عن الواقع.
ففيه: إنَّ المدعى هو أنَّ دليل الأصل يدل بالالتزام على جعل البدل في طول دلالته على جعل الأصل فتكون دلالته على جعل البدل موقوفة على دلالته على جعل الأصل، في حين أنَّ المفروض أنَّ جريان الأصل موقوف على جعل البدل.