45/08/08
الموضوع: الأصول العملية/ أصالة الاحتياط / المقام الثالث
ذكرنا أنَّ المحقق النائيني قده فرَّق بين الترخيص في جميع الأطراف وبين الترخيص في بعضها، أي فرَّق بين حرمة المخالفة القطعية وبين وجوب الموافقة القطعية، وذكر أنَّ الترخيص في جميع الأطراف لا يمكن الالتزام به لأنه يضاد وينافي التكليف المعلوم بالإجمال بينما الترخيص في بعض الأطراف لا مانع منه لأنَّ مرجعه الى اكتفاء الشارع عن الواقع بترك الطرف الآخر، ففي مثال الإناءين الخارج أحدهما عن محل الإبتلاء كأنَّ الشارع اكتفى عن ترك النجس الواقعي بترك أحدهما وهو الطرف الخارج عن محل الابتلاء ورخص في ارتكاب الطرف الداخل في محل الإبتلاء، وفي الشبهة الوجوبية رخصَّ في ترك هذا الطرف واكتفى من المكلف بفعل الطرف الآخر.
ثم ذكر أنَّ هذا ليس غريباً لأنَّ الشارع اكتفى بالإطاعة الاحتمالية مع العلم التفصيلي في بعض الموارد كما هو مفاد الأصول العلمية الجارية في وادي الفراغ كقاعدتي الفراغ والتجاوز، وهذا اكتفاء منه بالإطاعة الاحتمالية بدلاً عن الجزمية، ولو لم يكتفي بذلك لأمر بالإعادة ولما سوغ له إجراء قاعدة الفراغ والبناء على الصحة، هذا في العلم التفصيلي فما ظنك في العلم الإجمالي الذي لم ينكشف فيه الواقع تمام الانكشاف، فيجوز للشارع الترخيص في البعض والاكتفاء عن الواقع بترك الآخر أو فعله بحسب الشبهتين.
واختار السيد الخوئي قده هنا – أي في الجهة الثانية – القول بالاقتضاء في مقابل العلية - وقد تقدم أنَّ البحث هنا مبني على القول بالاقتضاء في الجهة الأولى، وحيث اختار السيد الخوئي قده هناك عدم الاقتضاء فيكون هذا البحث عنده تنزلياً - وذكر أنه المعروف بينهم خلافاً لصاحب الكفاية وبعض الاساطين من تلامذته – ولعله المحقق العراقي - حيث ذهبوا الى العلية التامة، ولم يستدل على ما اختاره إلا بأنَّ موضوع الأصل محفوظ في كل من الطرفين لأنَّ التكليف في كل واحد منهما مشكوك فيمكن جعل الحكم الظاهري فيه.
ومنه يظهر أنَّ المحقق النائيني قده يرى إمكان جعل الحكم الظاهري في بعض الأطراف باعتبار أنه يستلزم الاكتفاء عن الواقع، وذلك بجعل الطرف الخارج عن محل الابتلاء بدلاً عن الواقع، ثم ذكر أنَّ هذا لا يحتاج الى دليل خاص بل نفس الأذن والترخيص في البعض – وهو الداخل في محل الابتلاء - يستلزم بدلية الآخر عن الواقع قهراً وإلا لكان الترخيص مشكلاً، نعم لا بد أن يثبت الأذن بدليل خاص إذ يكون لازمه جعل الآخر بدلاً عن الواقع، لا بالأدلة العامة من قبيل أصالة الحل وحديث الرفع والاستصحاب النافي للتكليف.
هذا هو القول بالاقتضاء في الجهة الثانية.
وأما القول بالعلية التامة في الجهة الثانية - بمعنى أنَّ العلم الإجمالي كما هو علة تامة لحرمة المخالفة القطعية كذلك هو علة تامة لوجوب الموافقة القطعية، وهو يعني عدم جريان الأصول المؤمنة في الأطراف لا كُلاً ولا بعضاً - فقد ذكر السيد الخوئي قده له دليلين:
الأول ما في الكفاية، وحاصله:
إنَّ الفرق بين العلم التفصيلي وبين العلم الإجمالي إنما هو في متعلق العلم أي من ناحية المعلوم نفسه فإنه تارة يكون فعلياً من جميع الجهات بأن يكون واجداً لما هو العلة التامة للبعث والزجر الفعليين وحينئذٍ يمتنع جعل الحكم الظاهري على خلافه في موارد العلم التفصيلي، وفي موارد العلم الإجمالي في تمام الأطراف وكذا في بعضها لأنه كما يستحيل الترخيص في جميع الأطراف لكونه منافياً ومضاداً مع التكليف الفعلي فيلزم من جعله اجتماع الحكمين المتضادين وهو محال فكذلك يستحيل الترخيص في بعض الأطراف لأنه يلزم منه احتمال اجتماع الضدين لاحتمال وجود التكليف في ذلك الطرف وهو محال أيضاً.
وأخرى لا يكون المعلوم فعلياً فيمكن جعل الترخيص من دون فرق بين العلم التفصيلي والإجمالي، أي أنه حتى مع العلم التفصيلي بالتكليف إذا فرض عدم كونه فعلياً من جميع الجهات بأن كانت فعليته موقوفة على أمر غير حاصل فلا مانع من الترخيص الظاهري في مخالفته، غاية الأمر حيث أنَّ الكلام في الحكم الفعلي من جميع الجهات سوى جهة الجهل به فإذا تعلق به العلم التفصيلي صار فعلياً من جميع الجهات إذا لا يُحتمل أن يكون هناك شيء آخر تتوقف عليه فعلية الحكم، بخلاف ما إذا تعلق به العلم الإجمالي فإنه يمكن أن لا يعتبر فعلياً من جميع الجهات لاحتمال توقفه على العلم التفصيلي.
ومنه يظهر أنَّ صاحب الكفاية يرى أنه إذا أمكن جعل الترخيص الظاهري في بعض الأطراف لعدم فعلية التكليف من جميع الجهات أمكن جعله في جميع الأطراف، وإذا لم يمكن جعله في الجميع لكون التكليف فعلياً من جميع الجهات فلا يمكن جعله حتى في بعض الأطراف.
وعليه فالدليل على العلية في المقام هو نفس الدليل عليها في المقام السابق – أي في حرمة المخالفة القطعية - وهو دعوى فعلية الحكم المعلوم بالإجمال من جميع الجهات وعدم توقف ذلك على العلم التفصيلي، وعليه يكون العلم الإجمالي علة تامة لوجوب الموافقة القطعية كالعلم التفصيلي.
هذا هو الدليل الأول للعلية التامة.
ولوحظ عليه بأن ما استدَّل به على العلية التامة هو عين الدعوى فيكون مصادرة، لأن محل الكلام هو أنه هل يمكن الترخيص في مخالفة التكليف المعلوم بالإجمال كما هو الحال في التكليف المشكوك بالشك البدوي أو لا يمكن ذلك.