الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

45/08/06

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/ أصالة الاحتياط / المقام الثالث

المقام الثاني في وجوب الموافقة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال

والكلام فيه يقع في جهتين الأولى في أصل الاقتضاء، الثانية في أنَّ العلم الإجمالي هل يمنع من جريان الأصول في بعض الأطراف أو لا.

أما الجهة الأولى فالبحث عنها في المقام الأول لم يقع في أصل اقتضاء العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية إذ لا إشكال في أنه يقتضي ذلك، وإنما الخلاف كان في أنَّ هذا الاقتضاء هل هو بنحو العلية التامة حتى يمنع من جريان الأصول في جميع الأطراف أو لا، فإنَّ العلم الإجمالي على أي تفسير يدخل التكليف المعلوم بالإجمال في العهدة فتحرم مخالفته قطعاً.

وأما في هذا المقام فهناك كلام في أصل الاقتضاء، أي هل يقتضي العلم الإجمالي وجوب الموافقة القطعية أو لا يقتضي ذلك، هذه الجهة الأولى.

وأما الجهة الثانية فبعد الفراغ عن أنَّ العلم الإجمالي يقتضي وجوب الموافقة القطعية يقع الكلام في أنَّ هذا الاقتضاء هل هو على نحو العلية التامة أو لا، وعلى الأول يمنع من جريان الأصول في أحد الأطراف، وأما على الثاني فلا إشكال في الترخيص الشرعي في بعض الأطراف، ومع جريانه فيه يجوز ارتكابه وهو معنى عدم وجوب الموافقة القطعية.

أما البحث في أصل الاقتضاء ففيه رأيان:

الرأي الأول: إنَّ العلم الإجمالي لا يقتضي وجوب الموافقة القطعية، بمعنى أنه لا يقتضي تنجيز التكليف المعلوم بالإجمال بمقدار وجوب موافقته القطعية، وإن كان يقتضي تنجيزه بمقدار حرمة مخالفته القطعية، ففي مثال العلم الإجمالي بوجوب إحدى الصلاتين في ظهر الجمعة يقتضي التنجيز بمقدار المنع من ترك كلتا الصلاتين لكن لا يقتضي التنجيز بمقدار إيجاب الإتيان بكلتا الصلاتين، والسر فيه هو أنَّ العلم الإجمالي لا يقتضي إلا الاتيان بأحدهما لا كليهما لأنَّ المقدار الذي تم عليه البيان إنما هو وجوب أحدهما وأما خصوصية الظهر وخصوصية الجمعة فمما لم يتم عليه البيان، ومن الواضح أنَّ امتثال ما تم عليه البيان يتحقق بإتيان إحدى الصلاتين لا أزيد من ذلك.

نعم العلم الإجمالي لما كان علة تامة لحرمة المخالفة القطعية على ما تقدم أي أنه يمنع من إجراء الأصل المؤمن في كلا الطرفين فهو يوجب تعارض الأصول في الأطراف، وإذا سقطت الأصول للتعارض فيبقى احتمال التكليف في كل طرف بلا مؤمن فيتنجز وتجب الموافقة القطعية، ولذا لو فرض عدم جريان الأصل في أحد الطرفين لأي سبب فلا مانع من جريان الأصل في الطرف الأخر لعدم المعارض.

وهذا الرأي يعني أنَّ العلم الإجمالي بنفسه لا يقتضي وجوب الموافقة القطعية وإنما تجب في طول تعارض الأصول وتساقطها ولولا التعارض لجرى الأصل في بعض الأطراف ولم تجب الموافقة القطعية.

الرأي الثاني: إنَّ العلم الإجمالي يقتضي وجوب الموافقة القطعية.

والرأي الأول هو ظاهر بعض كلمات المحقق النائيني قده وتبناه السيد الخوئي قده في أجود التقريرات.

قد يقال: إنَّ الدليل المذكور لإثبات عدم الاقتضاء مبني على القول بتعلق العلم الإجمالي بالجامع فلا يتنجز به إلا الجامع لأنه المعلوم الذي تم عليه البيان، ويكفي فيه الاتيان بأحد الطرفين، وأما إذا قلنا بتعلقه بالواقع فلا يتم هذا الدليل لأنَّ الواقع إذا تنجز على المكلف باعتباره مما تم عليه البيان فلا بد من امتثاله قطعاً ولا يكون ذلك إلا بالإتيان بكلا الطرفين، وهو يعني أنَّ العلم الإجمالي يقتضي وجوب الموافقة القطعية.

ويلاحظ عليه: بأن الدليل الذي ذكروه تام حتى إذا قلنا أنَّ العلم الإجمالي يتعلق بالواقع ولكن ليس المقصود منه تعلقه بالواقع الخارجي وهو المعلوم بالعرض وإنما المقصود منه تعلقه بالمعلوم بالذات وهو الصورة العلمية الكاشفة عن الواقع الخارجي، لوضوح أنه لا يُدعى ذلك حتى في العلم التفصيلي، وغاية الأمر أنَّ الصورة وهي المعلوم بالذات في العلم الإجمالي غير واضحة بخلافه في العلم التفصيلي، وعليه لا يكون البيان تاماً في العلم الإجمالي على الفرد وأن كان تاماً بالنسبة إلى الجامع وحينئذٍ يصح أن يقال أنَّ ما تم عليه البيان هو الجامع لا الفرد فيتم الدليل على عدم الاقتضاء.

الملاحظة على الدليل:

نعم يلاحظ على الدليل شيء آخر وهو أولاً: أنّ فرض التعارض والتساقط في الأصول المؤمنة إنما يكون مقبولاً في الأصول المؤمنة الشرعية ولكنه في البراءة العقلية ليس مقبولاً وليس معقولاً، إذا لا يمكن فرض حصول التعارض في حكم العقل لأنَّ موضوعه إن كان تاماً في كل واحد من الطرفين استحال التعارض بين البراءتين، وأن لم يكن تاماً فلا تجري البراءة لعدم المقتضي لا للتعارض.

وثانياً: إنَّ العلم الإجمالي حتى إذا فرض تعلقه بالجامع فإنَّ الوجدان قاضٍ بأنَّ ما كُلِّف به العبد من قبل الشارع وما دخل في عهدته واشتغلت به ذمته إنما هو إحدى الصلاتين فيكون المنُجَّز عليه هو الواقع لا الجامع الذي ينطبق على هذا الفرد وعلى ذاك الفرد لوضوح أنَّ الشارع لا يريد ذلك قطعاً فإنه لم يأمر بعنوان إحدى الصلاتين بل أمر بصلاة الظهر بخصوصياتها أو بصلاة الجمعة بخصوصياتها.

إذن ما تنجَّز عليه بالوجدان هو الواقع فلا بد من الاتيان به وموافقته ولا يكون ذلك إلا بالإتيان بهما معاً، وهو معنى اقتضاء العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية مباشرة.

ومنه يظهر أنَّ دعوى أنَّ ما تنجَّز هو عنوان إحدى الصلاتين - لأنه هو الذي تم عليه البيان ويكفي في امتثاله الاتيان بأحدهما - هذا خلاف الوجدان القاضي بأنَّ ما أوجبه الشارع ليس هو عنوان أحدهما لأنَّ هذا مرجعه الى التخيير بين الصلاتين وهو باطل جزماً.

فالصحيح في المقام هو القول بالاقتضاء كما هو الحال في حرمة المخالفة القطعية.

وأما أنَّ ذلك هل هو بنحو العلية التامة أو بنحو الاقتضاء فيأتي بحثه في الجهة الثانية.