45/08/01
الموضوع: الأصول العملية/ أصالة الاحتياط / المقام الثالث
كان الكلام في ما ذكره السيد الخوئي قده حيث ذكر مانعاً من جريان الأصول في تمام الأطراف واعتبره مانعاً ثبوتياً، وهو مناقضة الحكم الظاهري الناظر الى الواقع مع العلم الوجداني الإجمالي، وذكر أنَّ هذا الوجه يختص بما إذا كان الحكم الظاهري ثابتاً بالأمارة ولا يشمل غيرها.
نعم لا يختص بما إذا كان المعلوم بالإجمال حكماً إلزامياً بل يجري حتى لو كان حكماً ترخيصياً، كما لو علم اجمالاً بطهارة أحد الإناءين ودلت الأمارة على نجاسة كل واحد منهما، فلا يمكن إثبات الحكم الظاهري الترخيصي في كِلا الطرفين مع وجود العلم الإجمالي للمناقضة بينه وبين الحكم الظاهري الثابت بالأمارة في كلا الطرفين، سواء كان حكماً إلزامياً أم ترخيصياً[1] .
وقلنا إنَّ هذا الكلام كأنه مأخوذ مما ذكره المحقق النائيني قده حيث ذكر أنه لا مانع من شمول دليل الأصل لكلا الطرفين، واستدرك عليه فقال إلا في موارد الأصول العلمية المحرزة فلا يمكن الالتزام بثبوت الترخيص الظاهري الثابت بها لأنَّ الأصل التنزيلي يكون ناظراً الى الواقع فيثبت الحالة السابقة بعنوان أنه الواقع ويلغي الشك تعبداً وهذا لا يجتمع مع العلم الإجمالي الوجداني بنجاسة أحد الاناءين.
ثم ذكر أنَّ هذا لا يختص بالتكليف الالزامي بل يجري حتى في الحكم الترخيصي وذلك باعتبار أنه لا يمكن الحكم ببقاء الحالة السابقة في الطرفين مع العلم بانتقاضها في أحد الطرفين، من دون فرق بين الحكم الالزامي وبين الحكم الترخيصي المعلوم بالإجمال فإنَّ الحكم ببقاء الحالة السابقة في الطرفين لا يجتمع مع العلم بانتقاض الحالة السابقة في أحد الطرفين.
أقول: من الواضح أنَّ ما ذكره المحق النائيني قده لا يختص بالاستصحاب بل لا بد من تعميمه لما إذا كان الحكم الظاهري ثابتاً بالأمارة، لأنَّ المانع بنظره هو أنَّ المجعول في الأصول التنزيلية هو أمر لا يمكن ثبوته في جميع الأطراف وهو إلغاء الشك وتنزيل المؤدى منزلة الواقع المشكوك تعبداً، وهذا بنفسه ثابت في الأمارات بشكل أوضح.
وقد وافقه السيد الخوئي قده في أنَّ المانع من جريان الأصول في تمام الأطراف هو المناقضة المذكورة ولكن في خصوص الأمارات دون الاستصحاب، وعلله بأنَّ الأمارة إذا قامت في كل من الطرفين على خلاف المعلوم بالإجمال - كما إذا قامت البينة على طهارة أحد الاناءين المعين وقامت بينة أخرى على طهارة الآخر - سقطتا عن الاعتبار للتعارض بينهما وذلك لأنَّ الأمارة حجة في مدلولها الالتزامي كما هي حجة في مدلولها المطابقي فالبينة الدالة على طهارة هذا الاناء بالمطابقة تدل بالالتزام على نجاسة الآخر بضميمة العلم الإجمالي بنجاسة أحد الاناءين، فتكون معارضة للبينة الأخرى القائمة على طهارة الاناء الآخر، فتتكاذبان ولا يمكن الجمع بينهما، ونفس الكلام يقال في البينة الثانية، فالتعارض يقع بين المدلول المطابقي لكل من البينتين مع المدلول الالتزامي للأخرى، ومعه تسقط البينتان عن الحجية إذ لا يمكن شموله دليل الحجية لهما بعد تكاذبهما ولا لأحدهما لأنه ترجيج بلا مرجح.
هذا في باب الأمارات وأما الاستصحاب فليس كذلك لأنه ليس حجة في مدلوله الالتزامي فإذا جرى في أحد الطرفين فيثبت مؤداه من دون أن يكون ناظراً الى الطرف الآخر، فلا تعارض بين الاستصحابين حتى نلتزم بسقوطهما عن الحجية.
أقول: المانع الذي ذكره ليس مانعاً ثبوتياً لأنه يرجع الى التعارض في دليل الحجية بعد التنافي بين المدلول المطابقي لكل واحد من الأمارتين وبين المدلول الالتزامي للآخر، وهذا هو نفس المانع الذي سيذكره في المسألة الآتية - أي منجزية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية - الذي يمنع من جريان الأصل في أحد الطرفين، وقد صرَّح هناك بأنه مانع إثباتي في حين أنه ذكره هنا بعنوان أنه مانع ثبوتي.
وعلى كل حال فالمانع الذي ذكره المحقق النائيني قده هنا - وهو المناقضة بين الإحراز التعبدي بعدم انتقاض الحالة السابقة في الطرفين وبين الاحراز الوجداني بانتقاض الحالة السابقة في أحد الطرفين - يختلف عن المانع الثبوتي الذي ذكره في الوجه الأول من الوجوه الثلاثة المتقدمة في الاستدلال على العلية التامة، فهو هناك دعوى التضاد بين الترخيص في تمام الأطراف وبين حكم العقل بقبح المعصية، بينما الوجه هنا هو المنافاة بين الإحراز التعبدي ببقاء الحالة السابقة في كل من الطرفين مع العلم الوجداني بانتقاضها في أحد الطرفين، والوجه الأول يتوقف على إثبات أن حكم العقل لابد أن يكون حكماً تنجيزياً، وأما هذا الوجه فلا علاقة له بالحكم العقلي وإنما هو المنافاة المذكورة آنفاً، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى إنَّ المحذور في الوجه الأول يختص بما إذا كان الحكم الظاهري إلزامياً، ولذا يحكم العقل بقبح معصيته، وهو يناقض الترخيص في تمام الأطراف، بينما لا يجري ذلك في الحكم الترخيصي المعلوم بالإجمال إذ لا اقتضاء فيه ولا قبح في مخالفته وإنما الوجه فيه هو المناقضة بين الاحراز التعبدي للحالة السابقة في كلا الطرفين وبين العلم الوجداني بانتقاض الحالة السابقة في أحد الطرفين كما مرَّ.
ومنه يظهر أنه لا يكفي في إنكار المانع الثبوتي في المقام دعوى أنَّ الموانع الثبوتية مبنية على كون الحكم العقلي تنجيزياً فإذا أنكرنا ذلك فلا مانع ثبوتاً، وذلك لأنَّ هذا المانع الذي ذكره المحقق النائيني قده هنا لا يبتني على ذلك فيكون مانعاً ثبوتياً حتى إذا قلنا بتعليقية الحكم العقلي، ويكون ثابتاً في جميع موارد العلم الإجمالي حتى إذا كان الحكم ترخيصياً فضلاً عن الحكم الالزامي.
ومن هنا يقع الكلام في هذا المانع الذي لا يتوقف على دعوى تنجيزية الحكم العقلي.