الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

45/07/29

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/ أصالة الاحتياط / المقام الثالث

كان الكلام في منجزية العلم الاجمالي للتكليف المعلوم بالإجمال، والمقصود بالمنجزية هنا أن يكون العلم الإجمالي مانعاً من جريان الأصول المؤمنة في أطرافه كُلاً أو بعضاً، وتقدم أنَّ الكلام تارة يقع في منجزية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية على نحو يمنع من جريان الأصول المؤمنة في تمام الأطراف، وأخرى يقع في منجزيته لوجوب الموافقة القطعية على نحو يمنع من جريان الأصول المؤمنة ولو في بعض الأطراف، والبحث فعلاً في الأول.

وقد ذكرنا أنه لا ينبغي الاشكال في أنَّ العلم الإجمالي يُنجّز حرمة المخالفة القطعية لتمامية البيان بالنسبة الى الجامع فهو معلوم للمكلف فيتنجز عليه فتحرم مخالفته القطعية، نعم هناك بحث في نوع هذه المنجزية فهل هي على نحو العلية التامة أم على نحو الاقتضاء.

وقد ذكرت وجوه لإثبات العلية التامة، وذكرنا أنها تبتني على أنَّ حكم العقل بالمنجزية هو حكم تنجيزي وليس تعليقياً، كما مرَّ ذكر الوجه الأول منها وهو ما عن المحقق النائيني قده والذي يرجع الى دعوى التضاد بين الترخيص في جميع الأطراف وبين حكم العقل بقبح المعصية، وهذا محذور ثبوتي يمنع من جريان الأصول المؤمنة في تمام الأطراف، وهو يعني استحالة ترخيص الشارع في المعصية القبيح بحكم العقل، فلا بد من الالتزام بعدم الترخيص في تمام الأطراف وهو معنى العلية التامة.

ومن الواضح أنَّ هذا الوجه يبتني على أنَّ حكم العقل بقبح المعصية حكم تنجيزي حتى يتحقق التضاد، وأما إذا كان حكماً تعليقياً فلا منافاة ولا تضاد.

الوجه الثاني: ما عن صاحب الكفاية ومرجعه الى دعوى التضاد بين الترخيص في تمام الأطراف وبين التكليف الواقعي المعلوم اجمالاً، وهو يعني أنَّ التكليف المعلوم بالإجمال لا يخلو عن احدى حالتين: فإما أن يكون بالغاً درجة الفعلية من جميع الجهات ولو بنفس العلم الإجمالي، بمعنى أنه صار علة تامة للبعث والتحريك وما يترتب عليه من استحقاق العقاب عند المخالفة واستحقاق الثواب عند الموافقة، وإما أن لا يكون كذلك إلا بالعلم التفصيلي فلا يكون علة تامة للبعث والتحريك وما يترتب عليهما.

وبناءً على الأول يستحيل الترخيص في تمام الأطراف لأنه يلزم منه اجتماع حكمين فعليين متضادين وهما الترخيص الفعلي في تمام الأطراف والتكليف المعلوم بالإجمال بعد فرض فعليته من جميع الجهات، وهو يعني استحالة شمول أدلة الأصول المؤمنة لتمام الأطراف.

ثم يترقى ويقول بل يستحيل الترخيص في بعض الأطراف باعتباره مضاداً للتكليف الفعلي من جميع الجهات المعلوم بالإجمال، إذ يحتمل أن يكون التكليف موجوداً في هذا الطرف فيستحيل جعل الترخيص فيه للزوم احتمال التضاد وهو محال كالجزم بالتضاد.

هذا كله بناءً على أنَّ التكليف المعلوم بالإجمال يصبح فعلياً من جميع الجهات بتعلق العلم الاجمالي به.

وأما إذا قلنا بالثاني أي لا يكون التكليف فعلياً من جميع الجهات إلا بالعلم التفصيلي به فلا يكون الترخيص في تمام الأطراف مستحيلاً لأنه لا يضاد حكماً فعلياً يقتضي البعث والتحريك، والتضاد إنما يكون من جهة الداعوية والبعث والتحريك.

والملاحظة عليه: إنَّ هذا الكلام يفترض التضاد بين الترخيص في تمام الأطراف بل في بعضها وبين التكليف الواقعي المعلوم بالإجمال إذا كان بالغاً مرتبة الفعلية من جميع الجهات، فما هو المقصود من وصول التكليف الى درجة الفعلية من جميع الجهات؟

والجواب: إنَّ وصول التكليف المعلوم بالإجمال الى درجة الفعلية من جميع الجهات تارة يكون المقصود بها وصوله الى درجة من الأهمية في نظر المولى بحيث لا يرضى بتفويته حتى مع الشك بل يُلزم العبد بالتحفظ عليه والاحتياط من ناحيته، فما ذكره من عدم إمكان الترخيص في تمام الأطراف صحيح، إلا أنَّ هذا خروج عن محل الكلام لأنَّ الكلام ليس في تكليف نفرغ عن عدم إمكان الترخيص فيه وإلا لما كان لهذا البحث معنى إذ نبحث عن ماذا بعد الفراغ عن عدم إمكان الترخيص! بل الكلام في تكليفٍ معلومٍ بالإجمال نريد أن نبحث عن إمكان الترخيص فيه كما هو الحال في التكليف المشكوك في الشك البدوي، أو عدم إمكانه كما هو الحال في التكليف المعلوم تفصيلاً، وبعبارة أخرى إنَّ الفعلية بهذا المعنى هي محل الكلام فجعلها أمراً مفروغاً عنه خروج عن محل الكلام.

وأخرى يكون المقصود بها الفعلية بلحاظ مبادئ الحكم والاعتبار، وحينئذٍ لا نُسلِّم عدم إمكان الترخيص في تمام الأطراف لأنه مبني على دعوى أنَّ الحكم الظاهري لا تكون مرتبته محفوظة في موارد العلم الإجمالي وهذا أول الكلام، بل يحتمل ذلك فلا يكون جعل الترخيص في تمام الأطراف محال عقلاً.