الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

45/07/24

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/ أصالة الاحتياط / المقام الثالث

كان الكلام في التفصيل بين الأصول العملية التنزيلية فلا تجري في أطراف العلم الإجمالي وبين الأصول العملية غير التنزيلية فتجري فيها، والوجه فيه هو دعوى أنَّ الأصول العملية التنزيلية فرض فيها إلغاء الشك والتعبد بإحراز الواقع، فإذا جرى الأصل في كل طرف فهو يعني التعبد ببقاء الحالة السابقة – كالطهارة - في كل طرف، وهذا لا يجتمع مع العلم بانتقاض الحالة السابقة في أحد الطرفين بمقتضى العلم الإجمالي بارتفاع الحالة السابقة، أي نجاسة أحد الطرفين، وأما الأصل غير التنزيلي فليس فيه إلغاء الشك ولا تعبد بإحراز الواقع فلا يلزم منه ذلك، فلا مانع من جريانه.

والتعرض لهذا التفصيل وللأساس الذي يبتني عليه يأتي في بحث الاستصحاب، وهل هو أصل عملي تنزيلي بمعنى أنَّ مفاده هو التعبد بإحراز الحالة السابقة واعتبار المكلف الشاك في البقاء محرزاً للواقع بإلغاء الشك تعبداً، أو أنَّ مفاده الأمر بالجري العملي على وفق الحالة السابقة؟ وسيأتي هناك عدم استفادة التعبد بإحراز الواقع من دليل الاستصحاب، وعليه لا فرق بين الأصل العملي التنزيلي والأصل العملي غير التنزيلي.

الى هنا يتم الكلام عن البحث في المقام الثاني، وتبين أنه لا قصور في دليل الأصل العملي المؤمن عن الشمول لأطراف العلم الإجمالي، فما ذكره الشيخ الأعظم غير وارد.

المقام الثالث: في منجزية العلم الإجمالي للتكليف المعلوم بالإجمال على نحو يكون مانعاً من جريان الأصول المؤمنة وجعل الترخيص الظاهري في أطراف العلم الإجمالي كُلاً أو بعضاً.

لا إشكال في أنَّ العلم التفصيلي بالتكليف منجِّز له، بمعنى أنه يمنع من مخالفته القطعية، بل يوجب موافقته القطعية، فهل العلم الإجمالي له هذا الأثر في التكليف المعلوم بالإجمال، أو لا ينجّز شيء منهما، أو يقال بالتفصيل؟

والكلام في المنجزية تارة يكون في منجزية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية التي تعني مانعية العلم الإجمالي عن جريان الأصول المؤمنة في جميع الأطراف، وأخرى يكون في منجزيته لوجوب الموافقة القطعية التي تعني مانعية العلم الإجمالي عن جريان الأصول المؤمنة في بعض الأطراف، فالكلام يقع في مقامين:

الأول في منجزية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية.

الثاني في منجزية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية.

أما المقام الأول فلا ينبغي الاشكال في منجزية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية بمعنى مانعيته من جريان الأصول المؤمنة في جميع الأطراف، لوضوح أنَّ البيان تام بالنسبة الى الجامع على جميع التفاسير المتقدمة للعلم الإجمالي، ولذا لا خلاف في اقتضاء العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية، نعم وقع الكلام في أنَّ هذا الاقتضاء العقلي هل هو بنحو العلية التامة أو لا، وهذا يرتبط بالبحث عن أنَّ العلم الإجمالي هل يمنع من جريان الأصول في تمام الأطراف ثبوتاً، أي أنَّ العقل هل يرى وجود محذور ثبوتي في جريان الأصل الترخيصي في تمام الأطراف أو لا يرى ذلك؟

فإن قلنا بوجود محذور ثبوتي فيكون اقتضاء العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية بنحو العلية التامة، لأنَّ المنع العقلي يعني استحالة التفكيك بين العلم الاجمالي وبين حرمة المخالفة القطعية.

وإن قلنا أنَّ العقل لا يرى وجود مانع ثبوتي من جريان الأصل في تمام الأطراف فهو يعني أنَّ العلم الإجمالي ليس علة تامة لحرمة المخالفة القطعية وإنما هو منجِّز لحرمة المخالفة القطعية على نحو الاقتضاء.

وفي هذا البحث ذُكرت وجوه لإثبات المانعية ثبوتاً، وبالتالي إثبات تأثير العلم الإجمالي بنحو العلية التامة، وهذه الوجوه تبتني على دعوى أنَّ حكم العقل بالمنجزية حكم تنجيزي وليس معلقاً على عدم ورود ترخيص من قبل الشارع، وهي:

الأول: ما عن المحقق النائيني قده من أنَّ الترخيص في تمام الأطراف يستلزم المخالفة القطعية العملية للتكليف الواصل بالعلم الإجمالي، ولا يعقل ثبوت الترخيص في أطراف العلم الإجمالي لأنه ترخيص في المعصية وهو غير مقبول وغير معقول لاستقلال العقل بقبح المعصية، ويستحيل أن يرخص الشارع في القبيح عقلاً، إذن يستحيل أن تشمل أدلة الأصول المؤمنة أطراف العلم الإجمالي[1] .

ومرجع هذا الكلام الى دعوى التضاد بين الترخيص الظاهري في الطرفين وبين الحكم العقلي بقبح المعصية، لأنَّ الترخيص في الطرفين ترخصي في العصية،

ومن الواضح أنَّ هذا التضاد يتوقف على افتراض كون حكم العقل بقبح المعصية تنجيزياً غير معلق على عدم ورود الترخيص الشرعي، وحينئذٍ يكون منافياً ومضاداً لحكم العقل بقبح المعصية، وأما إذا كان معلقاً على عدم ورود الترخيص الشرعي فحينئذٍ لا يكون منافياً للحكم العقلي بل يكون الترخيص رافعاً لموضوع الحكم العقلي بالقبح، فالتضاد يبتني على أن يكون حكم العقل تنجيزياً لا تعليقاً.

الوجه الثاني: ما في الكفاية[2] من لزوم التضاد بين الترخيص الظاهري في تمام الأطراف وبين الحكم الواقعي المعلوم بالإجمال، وتوضيح ذلك:

إنَّ الحكم المعلوم بالإجمال تارة نفترض بلوغه الى مرتبة الفعلية من جميع الجهات ولو بنفس العلم الإجمالي بأن يكون واجداً لما هو علة تامة للبعث الفعلي أو الزجر الفعلي بالرغم من اجماله وتردده، وأخرى نفترض أنَّ التكليف المعلوم بالإجمال لم يبلغ هذه المرتبة بالرغم من تعلق العلم الإجمالي به، وذلك بأن تتوقف فعليته من جميع الجهات على العلم التفصيلي، وعلى الأول يستحيل الترخيص في تمام الأطراف للزوم اجتماع حكمين فعليين متضادين، وهما الترخيص الفعلي مع التكليف المعلوم بالاجمال وهو محال لعدم معقولية اجتماع التكليف الفعلي في أحد الطرفين مع الترخيص الفعلي في كِلا الطرفين.

 


[1] فوائد الأصول، الكاظمي، ج4 ص16. وأجود التقريرات، الخوئي، ج3 ص415 مؤسسة صاحب الأمر عج.
[2] كفاية الأصول، الخراساني، ج3 ص96، مؤسسة النشر الإسلامي.