الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

45/07/23

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/ أصالة الاحتياط / المقام الثاني

كان الكلام في دعوى أنَّ المراد باليقين في ذيل الدليل الأصل المؤمن هو اليقين التفصيلي فلا يشمل موارد العلم الإجمالي، وبذلك يرتفع إشكال التهافت الذي ذكره الشيخ الأنصاري قده، فلا مانع من شمول دليل الأصل الشرعي المؤمن لأطراف العالم الإجمالي، واستشهد لذلك بكلمة (بعينه) الواردة في بعض نصوص الأصول المؤمنة، والمراد بها المعرفة التفصيلية، فكذا يكون المراد من اليقين الناقض في ذيل دليل الاستصحاب.

وقلنا إنَّ هذه القرينة ظاهرة فيما ذُكر لأنَّ كلمة (بعينه) قيد والأصل في القيود هو الاحترازية، فيحترز به عن معرفة الحرام لا بعينه وهي معرفته اجمالاً، فكأن الدليل يقول: كل شيء لك حلال حتى تعرف الحرام معرفة تفصيلية وإلا فالحلية باقية، وهو يعني شمول دليل الأصل لأطراف العلم الإجمالي، فيرتفع الاشكال.

من هنا يتبين أنَّ أدلة الأصول شاملة لأطراف العلم الإجمالي ولكن بقطع النظر عن منجزية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية، وأما على القول بمنجزيته لها فيكون مانعاً من جريان الأصل في الأطراف، وسيأتي بحث ذلك.

رأي آخر:

وهناك رأي آخر يدعي عدم التنافي بين شمول دليل الأصل المؤمن لهذا الطرف أو ذاك وبين نفي الترخيص، والنكتة فيه هي أنَّ أخبار الترخيص يفهم منها عرفاً أنَّ الحكم بالحلية فيها هو حكم حيثي ثابت من جهة لا من جميع الجهات، فلو ورد في الدليل أنَّ الجبن حلال فهو حلال من حيث كونه جبناً، وهذا لا ينافي أن يكون حراماً من حيث الغصبية، فيكون حلالاً من حيثية وحراماً من حيثية أخرى، بمعنى أنَّ الدليل الدال على حرمته من الحيثية الثانية لا يوجب تقييد إطلاق الدليل على حليته من الحيثية الأولى فلا منافاة.

وتطبيق ذلك في محل الكلام بأن يقال إنَّ دليل الأصل العملي إنما يدل على الترخيص في هذا الطرف من حيث كونه مشكوكاً وهذا لا ينافي عدم الترخيص من حيث كونه معلوماً بالإجمال.

ولكن هذا الوجه غير تام وذلك باعتبار أنَّ مرجعه الى الاعتراف بشمول دليل الأصل لأطراف العلم الإجمالي وادعاء أنَّ العلم الإجمالي يُثبت وجود محذور في ارتكاب هذا الطرف لكونه طرفاً في العلم الإجمالي، وهذا يعني مانعية العلم الإجمالي من جريان الأصل في الطرف، أي أنَّ الترخيص لولا العلم الاجمالي يكون فعلياً وثابتاً في هذا الطرف ولكن العلم الإجمالي يمنع من ذلك لإقتضائه وجوب الموافقة القطعية.

وجوابه: إنَّ هذا رجوع الى البحث الآتي عن منجزية العلم الإجمالي ومانعيته والكلام هنا ليس في ذلك بل في الشمول بقطع النظر عن المنجزية العقلية، أي في أنَّ دليل الأصل هل يوجد فيه قصور عن الشمول لأطراف العلم الاجمالي كما يدعي الشيخ أو لا، وهذا الوجه أجنبي عن ذلك.

كما يتبين أيضاً: أنَّ ما قيل من أننا نمنع من شمول إطلاق دليل الأصل لأطراف العلم الإجمالي لأنَّ الأطلاق يتوقف على تمامية مقدمات الحكمة، ومنها عدم القرينة على التقييد من دون فرق بين أن تكون قرينة لفظية أو لبية، وفي المقام توجد قرينة لبية متصلة تمنع من الاطلاق وهي عبارة عن الارتكاز العقلائي، فإنه لا يوافق على جعل الترخيص الطاهري في تمام الأطراف لأنه يتناقض مع التكليف الواقعي المعلوم بالإجمال، ومثال ذلك وجوب اجتناب أحد الطرفين المعلوم نجاسة أحدهما الذي يتناقض مع الترخيص الظاهري في تمام الأطراف، فهذا الارتكاز يشكل قرينة متصلة لبية تمنع من اطلاق دليل الأصل لأطراف العلم الإجمالي.

وجوابه: أنَّ الكلام فعلاً في شمول أدلة الأصول العملية المؤمنة لهذا الطرف بخصوصه ولذاك الطرف بخصوصه، وليس الكلام في شمول أدلة الأصول العملية لهذا الطرف منضماً الى الطرف الآخر، لوضوح أنَّ ذلك ليس مفاد أدلة الأصول لأنَّ مفادها طهارة ما يُشك في طهارته أو إباحة ما يُشك في اباحته وهو هذا الطرف بخصوصه لا منضماً الى الطرف الآخر، وإلا لكان معلوم النجاسة أو معلوم الحرمة كما هو واضح.

فإذا كان المقصود بالارتكاز المدعى ارتكاز عدم الترخيص الظاهري في تمام الأطراف لأنه يناقض التكليف المعلوم بالإجمال فهذا صحيح لكنه ليس محل الكلام، وإذا كان المقصود عدم الترخيص الظاهري في هذا الطرف بالخصوص وفي ذاك الطرف بالخصوص فلا نُسلم وجود مثل هذا الارتكاز، وأي محذور عند العقلاء في فرض اكتفاء الشارع بترك أحد الطرفين في الشبهة التحريمية أو اكتفاؤه بفعل أحدهما في الشبهة الوجوبية! وهل ذلك إلا عبارة عن الموافقة الاحتمالية حتى إذا استلزمت المخالفة الاحتمالية، كيف وسيأتي أنَّ القائل بالاقتضاء في مرحلة وجوب الموافقة القطعية يتعقل ورود الترخيص في بعض الأطراف ويراه مانعاً من حكم العقل بلزوم تحصيل الموافقة القطعية على مستوى الاقتضاء.

هذا كله بالنسبة الى الرأي الأول القائل بعدم شمول دليل الأصل لأطراف العلم الإجمالي.

الرأي الثاني: وهو التفصيل المنسوب الى المحقق النائيني قده بين الأصول العملية التنزيلية وبين الأصول العملية غير التنزيلية، فلا تجري الأولى في أطراف العلم الإجمالي بينما تجري الثانية فيها.

ومرجع هذا التفصيل الى دعوى أنَّ الأصل العملي التنزيلي مفاده إلغاء الشك والتعبد بإحراز الواقع، ومن الواضح أنَّ هذا التعبد بإحراز الواقع في الطرفين ينافي العلم الوجداني بانتقاض الحالة السابقة في أحد الطرفين، فلا يجري الأصل فيهما، بل نقول ذلك حتى في موارد العلم الإجمالي بحكم غير إلزامي كما لو علمنا إجمالاً بطهارة أحد الإناءين، فجريان الأصول المثبتة للنجاسة لا يؤدي الى المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال إذ لا تكليف في هذا الفرض، ومع ذلك نمنع منه لنكتة التناقض بين التعبد بنجاسة هذا والتعبد بنجاسة هذا مع العلم الوجداني بانتقاض الحالة السابقة في أحد الطرفين، وهذا بخلاف الأصول العملية غير التنزيلية التي ليس فيها كشف عن الواقع ولا التعبد بإحرازه، فلا يكون مناقضاً للعلم الوجداني بانتقاض الحالة السابقة، فلا مانع من جريانه.