45/07/17
الموضوع: الأصول العملية/ أصالة الاحتياط / المقام الأول/ العلم الإجمالي
ذكرنا أنَّ المحاولة المطروحة لتجاوز الإشكالات الموردة على الآراء الثلاثة في حقيقة العلم الإجمالي إنما تتم في بعض أمثلة العلم الإجمالي كمثال التردد في الداخل الى المسجد ومثال التردد بين إناءين، فلو انكشف الحال وتبين أن زيداً هو الداخل في المسجد لصح القول إنَّ هذا هو ما عملتُ به اجمالاً، وهذا شاهد على أنَّ العلم يتعلق بالواقع بحده الشخصي المعين، ولكن هذه المحاولة لا تصح في المعلوم اجمالاً الذي ليس له ارتباط بواقع خارجي معين كمثال الخبرين المتعارضين، فلو فرضنا حصول الانكشاف وأنَّ الدال على الحرمة هو الخبر الكاذب فلا يصح القول إنَّ هذا الخبر هو الذي علمتُ به إجمالاً، لأنَّ المعلوم بالإجمال هو عنوان (أحدهما) وليس له واقع معين حتى يقبل العلم التفصيلي وينكشف به، بخلاف الأمثلة المتقدمة لأنَّ المعلوم به هو أحدهما الخاص لا عنوان أحدهما، وحينئذٍ لا يتم ما ذكر من كون متعلق العلم الإجمالي هو الفرد بحده الشخصي المعين واقعاً بل متعلق العلم هو أحد الخبرين.
ويبدو أنه لا بد من الالتزام بذلك في هذه الموارد، ولا ضير في اختلاف الموارد موضوعاً فيكون العلم الإجمالي فيها متعلقاً بالجامع أي بعنوان (أحدهما) وهو جامع عرضي انتزاعي منتزع من كِلا الفردين بما لهما من الخصوصيات الزائدة على الجامع الذاتي، ومن الواضح أنَّ الذهن البشري قادر على انتزاع مثل هذا الجامع من الفردين وذلك بعد ملاحظة الأمور العرضية وعدم ملاحظة ما به الاشتراك - وهي الأجزاء المقومة للفرد - وحينئذٍ قد يتوهم ورود الاشكال الوارد على الرأي الثاني، وحاصله: إنَّ الجامع لا يوجد في الخارج ولا في الذهن إلا في ضمن خصوصية الفرد، وهذا يعني أننا نعلم بما هو أزيد من الجامع، وكان الجواب عنه هو إنكار تعلقه بالجامع ووقوفه عليه، بل قلنا إنَّ الصحيح هو أنه يتعلق بالفرد بحده الشخصي المعين واقعاً.
ولكن هذا الجواب لا يصح في هذا المثال وأمثاله التي سلَّمنا فيها أنَّ العلم الإجمالي لا يتعلق إلا بالجامع، فما هو الجواب؟
الجواب: هو إنَّ الجامع هنا يختلف عن الجامع المقصود في الرأي الثاني، لأنَّ الجامع هناك هو الجامع الذاتي الحقيقي الذي هو جزء من حقيقة كل فرد من الأفراد، فإنَّ الذهن عندما يلاحظ الأفراد بإمكانه أن يطرح ما به الامتياز وتبقى صورة كلية تصدق على كل فرد منها، لأنها منتزعة منها بعد تجريدها عما به الامتياز، وهذا الجامع هو المراد من الجامع في الرأي الثاني فيرد عليه الاشكال بأنَّ مثل هذا لا يقبل الوجود بمعزل عن الأفراد، ولذا كان جواب المحقق الأصفهاني قده بإنكار أصل المبنى، وأما الجامع في هذه الموارد فهو جامع انتزاعي يُتنزع من هذا الفرد بخصوصياته المميزة له ومن ذاك الفرد بخصوصياته المميزة له أيضاً ليكون عنواناً مشيراً الى كل من الفردين بما هما فردان، وليس جزءاً تحليلياً من الفرد، ومن الواضح أنَّ مثل هذا الجامع يمكن تعلق العلم الإجمالي به ووقوفه عليه، أي يمكن فرض وجوده في الصورة لا في خصوصية هذا الفرد ولا في خصوصية الفرد الآخر فلا يرد الاشكال.
هذا ما يمكن أن يقال في المقام الأول في تفسير حقيقة العلم الإجمالي.
المقام الثاني: في شمول أدلة الأصول المؤمنة الشرعية لأطراف العلم الإجمالي
والكلام يقع في أنَّ أدلة الأصول العملية المؤمنة هل تشمل أطراف العلم الإجمالي مطلقاً أو لا تشملها مطلقاً أو يقال بالتفصيل بين الأصول العملية المؤمنة التنزيلية فلا تشملها وبين الأصول العملية البحتة فتشملها، ومنه يظهر أنَّ الاطلاق في القولين الأول والثاني ناظر الى هذا التفصيل.
وهذا النزاع لا يشمل الأصل المؤمن العقلي لوضوح شموله لأطراف العلم الإجمالي في حد نفسه وذلك لانحفاظ موضوعه في كل طرف من أطراف العلم الإجمالي.
نُسب الى الشيخ الأعظم القول بعدم الشمول مطلقاً، وذكر دليلاً على ذلك وهو ناظر الى أدلة الاستصحاب، وحاصله هو أنه يلزم من شمول دليل الاستصحاب لأطراف العلم الاجمالي حصول التناقض بين صدر الدليل وذيله الموجب لإجماله، وبالتالي عدم إمكان التمسك به لإثبات جريانه في أطراف العالم الإجمالي، والقدر المتيقن منه هو الشبهة البدوية، وأما لزوم التناقض فيُفسره بما حاصله:
إنَّ صدر الدليل يقول ( لا تنقض اليقين بالشك ) فلو فرضنا أنَّ المكلف كان على يقين من طهارة الثوب فالدليل ينهى عن رفع اليد عن هذا اليقين، وهذا اليقين علم تفصيلي وليس علماً إجمالياً كما هو واضح، ومآل هذا النهي كما ذكروا الى الأمر بالبناء على بقاء الحالة السابقة، وأما الذيل فيقول ( بل انقضه بيقين مثله ) وهذا أمرٌ بنقض اليقين السابق بيقين آخر، ومقتضى الذيل أنه يجوز لمن حصل له العلم الإجمالي أن ينقض اليقين السابق بالعلم الإجمالي لأنه يقين أيضاً، فذيل الرواية يأمر المكلف برفع اليد عن الحالة السابقة وهو منافٍ لصدرها.
وأجيب عنه بوجوه:
الوجه الأول: أنَّ هذا الذيل ليس موجوداً في جميع أخبار الاستصحاب فيمكن التمسك بها لإثبات شمول الاستصحاب لأطراف العلم الإجمالي من دون لزوم التناقض. صل المبنى أصل