الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

45/07/16

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/ أصالة الاحتياط / المقام الأول/ العلم الإجمالي

التحقيق في حقيقة العلم الإجمالي:

بعد أن ذكرنا الرأيين الأول والثاني والاعتراض عليهما نذكر الرأي الثالث القائل أنَّ العلم الإجمالي متعلق بالواقع، ولعله يُستدل له بما تقدم من أننا ندرك بالوجدان بأنَّ ما نعلمه بالعلم الإجمالي هو أزيد من الجامع، وقد مرَّ أنَّ الجامع ليس له وجود مستقل عن أفراده، فيكون فرض تعلق العلم به ووقوفه عليه مشكلاً، لأنه لا يوجد إلا في ضمن فرد بخصوصية في الفرد، وقد تقدم في مثال وجود شخص مردد في المسجد أنَّ الوجدان شاهد على أنَّ ما نعلمه ليس هو وجود إنسان في المسجد فقط وإنما هو إنسان ليس غير زيد أو عمرو.

واعترض عليه: بأنَّ الحد الشخصي للفرد الذي يُدعى تعلق العلم الإجمالي به إما هو داخل في الصورة الذهنية التي تنكشف بالعلم الإجمالي أو غير داخل فيها، فعلى الثاني يكون متعلق العلم هو الجامع وهو الرأي الثاني، وعلى الأول فهل الحد الشخصي المذكور هو الحد الشخصي المحدد المعين أو المردد، وعلى الثاني فهو الرأي الأول القائل بالفرد المردد وقد فرغنا عن بطلانه، وعلى الأول فيلزمه أن يكون العلم تفصيلاً وهو خلاف الوجدان، ومن هنا يتبين أنّ الآراء الثلاثة كلها محل اعتراض ومناقشة.

وهناك محاولة لتفسير الرأي الأول - القائل بالفرد المردد - بنحو يسلم من الاعتراض الوارد عليه، وذلك بأن يقال إنَّ المراد منه هو أنَّ العلم الإجمالي يتعلق بالواقع المعين في حد نفسه ولا تردد فيه وإنما التردد عند العالم به، فالمراد بالفرد المردد الذي فُرض تعلق العلم به هو المردد عند العالم، نظير مثال الانسان الداخل في المسجد فهو فرد معين بحده الشخص لكنه مردد عند العالم، حيث اشتبه عنده بين زيد وعمرو، وهكذا في مثال النية من أنَّ المكلف يقصد الأمر الفعلي المتوجه إليه وهو مردد عنده بين الأمر الوجوبي والأمر الندبي، فإنَّ القصد تعلق بالواقع المعين وإن كان مردداً عند نفس الشخص.

والحاصل: العلم الاجمالي يتعلق بالواقع غير المردد، نعم الواقع مردد في نظر العالم، فالعلم يتعلق بالخصوصية المعينة واقعاً المرددة عند العالم، وبهذا يندفع الاعتراض المتقدم على الرأي الأول، إذ لم يُفرض هنا التردد في الواقع حتى يرد عليه الاعتراض.

وهذه المحاولة في واقعها تُرجع الرأي الأول الى الرأي الثالث، فهما يشتركان في أنَّ العلم يتعلق بالواقع مع فرض التردد وعدم الانكشاف عند العالم، وعليه فالعمدة هو الرأي الثاني والثالث، والتردد بينهما ينشأ من أنَّ ما نعلمه بالوجدان في العلم الإجمالي ليس هو الجامع فقط لأنه ليس له وجود إلا في ضمن خصوصية الفرد، وهذا يقتضي تعدي العلم عن الجامع وعدم وقوفه عليه، ولذا صح أن يقول الشخص في المثال السابق: إني أعلم بوجود انسان في المسجد ليس غير زيد أو عمرو، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى إنَّ الخصوصية التي يتعدى اليها العلم إن كانت معينة لا تردد فيها صار العلم تفصيلياً وهو خلف، وإن كانت مرددة بين خصوصيتين رجع ذلك الى الفرد المردد.

وقد يقال بالثالث وتُدفع الملاحظة الواردة عليه بأن يقال إنَّ الخصوصية مرددة بين خصوصيتين بنظر العالم مع كونها معينة في الواقع فلا يرد محذور الفرد المردد، وعليه يندفع الاعتراض على الرأي الأول ويثبت الثالث، ويكون الفرق بين العلم الإجمالي والعلم التفصيلي من ناحية نفس العلم والانكشاف لا من ناحية متعلق العلم، وبذلك تندفع الإشكالات الواردة على الآراء الثلاثة، أما الاشكال الوارد على الرأي الثاني فيندفع بأنَّ هذا الجواب يفترض عدم وقوف العلم الإجمالي على الجامع، وأما الاشكال على الرأي الثالث فيندفع أيضاً لأنَّ هذه المحاولة تختار أنَّ الحد الشخصي داخل في الصورة العلمية المنكشفة بالعلم الإجمالي ومع ذلك لا يلزم انقلابه الى العلم التفصيلي لبقاء الفرق بينهما من ناحية نفس العلم والانكشاف من حيث الوضوح وعدمه، فيقال نختار أنَّ الحد الشخصي داخل في الصورة المنكشفة مرددة لكن الترديد عند العالم لا في الواقع، فلا إشكال.

وقد يقال: إنَّ هذا الحل إنما يصح في الموارد التي يكون فيها الجامع المعلوم اجمالاً له ارتباط بالواقع الخارجي المعين بحيث لو انكشف الواقع لصح للعالم أن يقول هذا ما علمته اجمالاً، كما إذا فرضنا أنه رأى شخصاً من بعيد دخل المسجد وتردد عنده بين زيد أو عمرو، أو علم بسقوط قطرة بول في أحد إناءين فحصل له العلم أجمالاً بنجاسة أحدهما، ففي كِلا المثالين المعلوم بالإجمال له ارتباط بواقع خارجي معين، ففي المثال الأول يعلم بوصول الشخص المعين الى المسجد، وفي المثال الثاني يعلم بنجاسة الاناء الذي وقعت فيه القطرة، وهذا إذا انكشف الحال وتبين أنَّ زيداً هو الداخل وأنَّ القطرة سقطت في الاناء الأيمن صح له أن يقول هذا هو ما علمته إجمالاً، وأما إذا لم يكن للمعلوم بالإجمال أي ارتباطٍ بواقعٍ خارجي معين كما لو كان معلومه هو عنوان (أحدهما) كما إذا دلَّ أحد الخبرين على حرمة شيء ودلَّ الآخر على اباحته فيحصل العلم الإجمالي للمكلف بأنَّ هذا الشيء إما حرام وإما مباح لاستحالة اجتماع الضدين، أو قل يحصل له علم اجمالي بكذب أحد الخبرين، فلا يصح ما تقدم لأننا لا نعلم إلا بكذب أحد الخبرين من دون أن يرتبط هذا المعلوم بواقع معين في الخارج، أي بواحد منهما على التعين كما هو الحال في المثالين السابقين، بل نسبته الى كلٍ منهما واحدة، ولذا لو انكشف الحال بأنَّ الخبر الدال على الحرمة مثلاً هو الكاذب لما صح له أن يقول إنَّ هذا هو ما علمته إجمالاً، لأنَّ المعلوم اجمالاً هو عنوان (أحدهما) وليس له واقع معين حتى يقبل العلم التفصيلي وينكشف به، بخلاف ما تقدم من الأمثلة لأنَّ المعلوم به هو أحدهما الخاص لا عنوان أحدهما، وحينئذٍ لا يتم ما ذكر من كون متعلق العلم الإجمالي هو الفرد بحده الشخصي المعين واقعاً.