الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

45/07/10

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/ أصالة الاحتياط / المقام الأول دوران الأمر بين المتباينين

الملاحظة على ما ذكره السيد الخوئي قده في الدراسات:

تقدم بيان كلام السيد الخوئي في الدراسات[1] ، وكأنه يجمع بين حكمين عقليين لا يمكن الالتزام بالجمع بينهما، وهما قبح العقاب بلا بيان ومنجزية الاحتمال، وهاتان قاعدتان متنافيتان، ولا يمكن الالتزام بأنَّ العقل يحكم بحكمين متنافيين، وأما التنافي فواضح فإنَّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان تعني أنَّ الاحتمال غير منجز، وقاعدة منجزية الاحتمال تثبته.

فهذا الكلام لا يخلو من غرابة لأنَّ قاعدة منجزية الاحتمال محكومة دائماً على مسلكه بقاعدة قبح العقاب بلا بيان فأي فائدة في جعلها وافتراض الفراغ عن وجود المقتضي للتنجيز - وهو الاحتمال - وأنَّ البحث ينبغي أن يقع في المانع وجريان الأصول وعدمه، مع أنَّ هذا المقتضي محكوم لقاعدة قبح العقاب بلا بيان!

وبعبارة أخرى: لا مجال لافتراض حكمين عقليين أحدهما منجزية الاحتمال والآخر قبح العقاب بلا بيان لأنهما إن كانا عرضيين فهو محال لأنهما متنافيان ويستحيل وجود حكمين عقليين متنافيين، وإن كانا طوليين فكذلك لاستحالة أن يحكم العقل بمنجزية احتمال التكليف ثم يحكم بقبح العقاب على التكليف الذي لم يتم عليه البيان أي العلم وأنَّ الحكم الأول معلق على عدم الثاني كما هو معلق على عدم المؤمن الشرعي، مع افتراض إدراك العقل ثبوت الحكم الثاني واستقلاله به وهو قاعدة قبح العقاب بلا بيان، فما فائدة حكمه الأول الذي لا يتحقق له مورد إطلاقاً!

والحاصل: أنَّ العقل إما أن يحكم بمنجزية الاحتمال أو يحكم بقاعدة قبح العقاب بلا بيان للتنافي الواضح فيما بينهما، وأما افتراض أنَّ العقل يحكم بالأول معلقاً على عدم الثاني مع أنه يحكم بالثاني فهو لغو صرف وبلا فائدة، بل مستحيل في الأحكام العقلية، وإلا لأمكن افتراض حكم العقل لكل أمرين متباينين بجعل حكمه في أحدهما المعين معلق على عدم حكمه في الآخر، كما إذا فرض حكمه بحسن شيء وبقبحه مع كون حكمه بالحسن معلقاً على عدم حكمه بالقبح مع فرض كونه يحكم بالقبح دائماً، فإنَّ هذا بالحقيقة يعني عدم حكمه بالحسن.

هذا مضافاً الى أنَّ الكلام عن التنجيز العقلي لاحتمال التكليف، أي عن حكم العقل بثبوت حق الطاعة للمولى في التكاليف المحتملة كما هو ثابت في التكاليف المعلومة وعدمه، ويترتب على الأول احتمال العقاب على تقدير المخالفة بخلافه على الثاني، وعلى هذا يكون احتمال العقاب على المخالفة في طول التنجيز العقلي وليس سبباً له كما ذكره قده، لأنَّ العقاب إنما يترتب على مخالفة ما تنجّز من التكاليف أي ما حكم العقل بحق الطاعة فيه للمولى وإلا فلا تكون مخالفته موجبة لاحتمال العقاب لأنه عقاب بغير حق وبغير بيان، إذن الصحيح أن يُستدل على احتمال العقاب بالمنجزية لا أن يُستدل على المنجزية باحتمال العقاب ويقال بأنَّ حكم العقل بالتنجيز ولزوم الطاعة ناشئ من احتمال العقاب على المخالفة كما ذكره، ولذا يصح الكلام عن التنجيز في المقام حتى لو فرض القطع بعدم العقاب إما لعدم القدرة على العقاب وإما للقطع بالعفو والمغفرة، فيقال إنَّ احتمال التكليف هل يكون منجزاً للتكليف عقلاً ويُدخله في دائرة حق الطاعة أو لا، مع أنَّ احتمال التكليف في هذا الفرض لا يستلزم احتمال العقاب، هذا شاهد على أنَّ احتمال العقاب ليس سبباً للتنجيز بل في طوله.

بل الصحيح من الملازمة إنما هي بين التكليف وبين استحقاق العقاب على المخالفة - لا بينه وبين نفس العقاب - بمعنى أنَّ العقاب لو صدر من المولى لكان في محله، ومن الواضح أنَّ الاستحقاق لا يكون إلا مع فرض التنجيز كما في موارد العلم بالتكليف أو قيام الحجة على التكليف، وحينئذٍ إذا ثبتت منجزية احتمال التكليف ترتب عليها الاستحقاق وإلا فلا.

والحاصل: إنَّ التنجيز العقلي المبحوث عنه هنا في مرتبة سابقة على احتمال العقاب واحتمال استحقاق العقاب.

التنجيز العقلي والتنجيز الطبعي:

نعم هناك تنجيز بمعنى آخر يكون في طول احتمال العقاب وهو الفرار من العقاب والضرر المحتمل، وهو أمرٌ طبعي جِبلِّي، وليس لذلك علاقة بالتنجيز العقلي، ولذا يترتب على احتمال العقاب حتى مع فرض عدم حق الطاعة كما إذا كان من يُحتمل أو يُعلم تكاليفه حاكماً ظالماً ليس له حق الطاعة، ولعل الخلط بين التنجيز العقلي وبين التنجيز الجبلِّي الطبعي أوجب الاشتباه المذكور فتُخيل أنَّ الكلام في الثاني، ولا شك في كونه في طول احتمال العقاب في حين أنَّ الكلام في الأول وهو ليس في طول احتمال العقاب.

وقد ظهر مما تقدم أنَّ الجمع بين منجزية الاحتمال عقلاً وبين قاعدة قبح العقاب بلا بيان غير صحيح بل غير ممكن، فالقائل بالقاعدة لا بد أن يبحث عن منجِّز للتكليف في المقام بغير احتمال التكليف في كل طرف وليس هو إلا العلم الإجمالي، أي الاحتمال المقرون بالعلم الإجمالي.

والبحث عن منجزية العلم الإجمالي يقع في عدة مقامات:

المقام الأول في حقيقة العلم الإجمالي.

المقام الثاني في شمول أدلة الأصول الشرعية المؤمنة لأطراف العلم الإجمالي.

المقام الثالث في منجزية العلم الإجمالي بحيث يمنع من جريان الأصول في الأطراف بعد فرض الشمول، وهنا بحثان:

الأول: في منجزية العلم الاجمالي لحرمة المخالفة القطعية، أي في أنه هل يمكن الترخيص في تمام الأطراف أو لا، وعلى الأول يكون تأثيره في حرمة المخالفة القطعية بنحو الاقتضاء، وعلى الثاني يكون تأثيره فيها بنحو العلية التامة.


[1] دراسات في علم الاصول، الهاشمي الشاهرودي، السيد علي، ج3، ص347.