45/07/04
الموضوع: الأصول العملية/ أصالة التخيير / المقام الثالث
كان الكلام في فرض وجود ميزة في أحد الحكمين بأن كان أهم محتمل الأهمية، وافترضنا أنَّه الوجوب فهو إما أهم من الحرمة أو مساوٍ لها في الأهمية، ولا نحتمل كون الحرمة هي الأهم، فوقع الكلام في وجوب تقديم جانب الوجوب على الحرمة أو لا يجب عليه ذلك؟
وبعبارة أخرى هل تجب عليه الموافقة القطعية لمحتمل الأهمية بأن يفعل في اليومين وإن استلزم ذلك المخالفة القطعية للمحتمل الآخر أو لا؟
ذكرنا وجهاً لعدم لزوم رعاية محتمل الأهمية وانما المكلف مخير في الواقعة الأولى بين الفعل والترك، فله أن يختار الفعل في اليومين أو الترك فيهما، وهو معنى التخيير الابتدائي، وذكرنا دليلاً لهذا الرأي، وتقدمت مناقشته والاعتراض عليه.
ثم ذكرنا الرأي الآخر الذي يقول لا بد من رعاية جانب محتمل الأهمية، أي لا بد من الموافقة القطعية لمحتمل الأهمية، وذكرنا أنه اُستُدل عليه بما نقل عن المحقق النائيني قده من أنَّ التكليف الواصل الى المكلف - ولو بالعلم الاجمالي - يقتضي أمرين: الأول أصل الامتثال، والثاني لزوم احراز الامتثال، وذكر بأنَّ هذين التكليفين المحتملين وإن كان لا يوجد بينهما تزاحم في أصل الامتثال لكن يوجد بينهما تزاحم في لزوم احراز الامتثال.
أما التزاحم في لزوم احراز الامتثال فواضح لأنَّ الوجوب عندما يقتضي ذلك فهو يقتضي الفعل في ليومين، وكذا الكلام في الحرمة التي تقتضي الترك في اليومين، فهما تكليفان متزاحمان في هذا التكليف العقلي، وعلى هذا الأساس طبق المحقق النائيني قده قوانين باب التزاحم وقدم محتمل الأهمية، ولا فرق بين تزاحم الحكمين في أصل الامتثال أو في لزوم إحراز الامتثال من جهة تطبيق قوانين باب التزاحم ويكون الترجيح لجانب محتمل الأهمية.
وأما عدم التزاحم بلحاظ أصل الامتثال فباعتبار أنه لا يكون إلا عندما يكون المكلف عاجزاً عن الجمع بين الامتثالين كما في مثال انقاذ الغريق مع وجود غريقين لا يتمكن المكلف من إنقاذهما معاً، فيتزاحم التكليفان في مقام الامتثال، وهذا غير متحقق في محل الكلام لأنَّ المكلف قادر على امتثال الحرمة والوجوب والجمع بينهما، وتوضيح ذلك:
الفرض الذي ذكرناه هو أنَّ المكلف إما حلف على الفعل في اليومين أو حلف على الترك فيهما، وفيه يأتي الاشكال عن كيفية الجمع بين الحرمة والوجوب، وأما الفرض الذي ذكروه فهو إنّ المكلف يعلم أنه حلف قطعاً إما على الفعل في زمان أو على الترك في زمان آخر مع اشتباه الزمانين بين الخميس والجمعة مثلاً، فالفعل في يوم الخميس يدور أمره بين الوجوب والتحريم وكذا الفعل في الجمعة، وفي هذا الفرض يصح كلام المحقق النائيني قده من أنَّ هذين الحكمين ليس بينهما تزاحم في اصل الامتثال لتمكنه من امتثالهما لتغاير متعلقهما ولو بلحاظ الزمان، والمكلف قادر على فعل الشيء في زمان وتركه في زمان آخر، نعم هو غير قادر على إحراز الامتثال، ولذا يكون التزاحم فيما يقتضيه كل من التكليفين من لزوم احراز الامتثال، ومعه تطبق عليهما قوانين باب التزاحم فيقدم محتمل الأهمية.
مثال آخر: وكذا لو فرض أنَّ المكلف علم بأنه حلف إما على الفعل في يوم الخميس والترك في يوم الجمعة أو بالعكس، فعلى كلا التقديرين يدور أمر الفعل في كل يوم بين الوجوب والتحريم.
هذا ما استدل به المحقق النائيني قده على لزوم تقديم محتمل الأهمية.
اعتراض السيد الخوئي قده
واعترض عليه السيد الخوئي بأنَّ غاية ما ثبت هو إدخال المقام في باب التزاحم ولو باعتبار التزاحم في لزوم احراز الامتثال، لكن لا دليل على لزوم مراعاة جانب محتمل الأهمية مطلقاً حتى يلزم تطبقه في محل الكلام.
نعم ثبت لزوم مراعاة محتمل الأهمية وموافقته القطعية وان استلزم ذلك المخالفة القطعية للمحتمل الآخر في حالتين:
الأولى: ما إذا كان دليل كل من الحكمين فيه إطلاق لفظي لحالة الاشتغال بالتكليف الآخر، ففي مثال الصلاة والازالة التكليف بالصلاة مطلق لحالة الاشتغال بالإزالة أو عدمه، وكذا التكليف بالإزالة مطلق لحالة الاشتغال بالصلاة أو عدمه، فحينئذ يقال لا بد من الالتزام بسقوط الاطلاق في كلا الدليلين لكن ذلك في صورة تساويهما في الأهمية، وأما فرض سقوط إطلاق أحد الدليلين فهو ترجيح بلا مرجح، كما لا يمكن إبقاء إطلاق كلا الدليلين لأنه تكليف بغير المقدور، فلا بد من سقوط اطلاقيهما في حالة التساوي في الأهمية.
وأما إذا كان أحدهما محتمل الأهمية فالقاعدة تقتضي سقوط إطلاق غير محتمل الأهمية، فلو فرضنا أنَّ أحد الغريقين محتمل الأهمية فيسقط إطلاق دليل غير محتمل الأهمية، بمعنى أنَّ وجوب إنقاذه لا يشمل حالة الاشتغال بمحتمل الأهمية بمعنى أن دليله يقول (أنقذ هذا الغريق إن لم تشتغل بإنقاذ محتمل الأهمية) فهو مقيد، وأما دليل محتمل الأهمية فمطلق ويقول (أنقذ هذا الغريق مطلقاً).
ومن هنا يتبين أنَّ إطلاق دليل غير محتمل الأهمية ساقط قطعاً، أما في صورة التساوي فكلا الاطلاقين ساقط كما مر، وأما في صورة عدم التساوي فيتعين سقوط إطلاق غير محتمل الأهمية، ويتعين العمل بمحتمل الأهمية والاخذ بإطلاقه والالتزام بتقديمه على الاشتغال بالآخر.
الثانية: إذا لم يكن لدليلي الحكمين إطلاق لفظي بأن كانا لُبيين كالإجماع مثلاً، فهنا يمكن ترجيح محتمل الأهمية ونحكم بلزوم مراعاته، وذلك على أساس أنَّ الغرض من التكليف الآخر يجوز تفويته على كِلا التقديرين وأما الغرض من محتمل الأهمية فلا وضوح في جواز تفويته على كِلا التقديرين، أما الأول فواضح لأنه إما مساوٍ للآخر أو أقل منه، وعلى فرض التساوي لا يتعين على المكلف أحدهما بل يتخير من بينهما، وأما إذا كان أقل فأوضح لأنَّ اللازم حينئذٍ مراعاة محتمل الأهمية.
وأما الثاني فلا وضوح في جواز تفويت غرضه لاحتمال أهميته فلا يجوز تفويت ملاكه، ويجب أن يتصدى المكلف لامتثاله وتحصيل غرضه، فيتقدم محتمل الأهمية على غيره.
ثم يقول: وكلتا الحالتين لا تنطبقان في محل الكلام، ولذا لا يمكن تقديم محتمل الأهمية.
أما عدم انطباق الحالة الأولى فلأنَّ المفروض في محل الكلام هو بقاء الاطلاق في كِلا الحكمين وعدم وجود تزاحم بينهما بلحاظ أصل الامتثال، لإمكان الجمع بينهما لأنهما في زمانين، الفعل في زمان والترك في زمان أخر، وهو قادر على امتثال كل منهما، فإطلاقهما باقٍ ولا تجري الحالة الأولى في محل الكلام.
وكذا لا تجري الحالة الثانية وذلك باعتبار أنه لم يثبت جواز تفويت الملاك في شيء من الحكمين لأنَّ ذلك فرع عجز المكلف عن امتثال كلا الحكمين والمفروض أنه قادر على امتثالهما.