45/06/23
الموضوع: الأصول العملية/ أصالة التخيير / المقام الثاني
ما تقدم من البحث كان في دوران الأمر بين محذورين مع كون أحدهما تعبدياً، ثم وقع الكلام في أنَّ المقام هل يدخل في مسألة الاضطرار الى أحدهما لا بعينه أو في مسألة الاضطرار الى أحدهما بعينه، وذُكرت محاولة لإدخاله في المسألة الثانية، ومعه يسقط العلم الإجمالي عن التنجيز ويجري الأصل في الطرف الآخر.
وأُشكل عليه بأنَّ المقام إنما يدخل في الاضطرار الى أحدهما بعينه وهو الوجوب العبادي، لأنَّ المكلف غير قادر على أن يأتي بالفعل على وجه مقرب كما في مثال الصلاة المتقدم، والمفروض عدم وجود مزية لأحدهما في قبال الآخر، فيكون الاضطرار الى أحدهما المعين.
وأجبنا عنه بأنه يمكن أن تأتي المرأة بالصلاة بقصد التقرب بداعي الفرار عن المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال، وهذا داعٍ قربي تتحقق به عبادة الفعل، وعليه تكون المرأة قادرة على امتثال هذا التكليف، فلا يدخل في باب الاضطرار الى أحدهما بعينه.
هذا كله مع فرض عدم وجود مزية لأحدهما على الآخر.
ثم الكلام يقع مع فرض وجود مزية في أحد المحتملين دون الآخر إما في درجة الاحتمال أو في أهمية المحتمل، وحينئذٍ يقال إن كانت هذه المزية موجودة في التكليف العبادي فيكون المكلف قادراً على امتثاله لوجود المرجح فيه، ويرفع الاشكال السابق ويكون الاضطرار الى أحدهما لا بعينه، لعدم اضطراره الى مخالفة التكليف التعبدي بالخصوص، بأن يترك الفعل إذ يمكنه مخالفة الحرمة بأن يفعل بقصد التقرب.
وأما إذا كانت المزية في التكليف التوصلي -كالحرمة في المثال – فالإشكال السابق باقٍ على حاله لأنَّ المفروض مرجوحية المحتمل التعبدي، فيتعذر امتثال التكليف العبادي الفاقد للمزية بحسب لفرض ويكون حينئذٍ اضطراراً الى أحدهما بعينه.
نعم إذا دفعنا الاشكال بما تقدم بحيث أمكن الاتيان بالفعل على وجه عبادي بالرغم من وجود المزية في المحتمل الآخر بأن يأتي به بداعي التخلص من المخالفة القطعية، وعليه تكون المسألة داخلة في الاضطرار الى أحدهما لا بعينه.
وعلى كل حال ففي الحالات التي يتمكن المكلف من امتثال التكليف العبادي المحتمل إما باعتبار الجواب السابق وأما باعتبار فرض المزية في العبادي كان المقام داخلاً في باب الاضطرار الى أحدهما لا بعينه، وسيأتي أنَّ الصحيح هو التوسط في التنجيز وبقاء تأثير العلم الإجمالي في حرمة المخالفة القطعية.
ثم أنه بعد فرض حرمة المخالفة القطعية - كما هو الصحيح - والتي تعني بضميمة عدم وجوب الموافقة القطعية الترخيص في مخالفة أحد المحتملين والفراغ عنه يقع الكلام في أنَّ هذا الترخيص هل هو ترخيصي تخييري بين الطرفين فكما يجوز مخالفة الحرمة - وهو المحتمل الذي ليس فيه مزية – بالفعل كذلك يجوز مخالفة الوجوب - وهو المحتمل ذي المزية – أم أنَّ هذا الترخيص هو ترخيص في مخالفة التكليف غير ذي المزية، وارتكاب ذي المزية باعتبار بقائه تحت المنجزية؟
الصحيح إنَّ الترخيص تعييني لا تخييري، وذلك لأنَّ الترخيص في مخالفة غير ذي المزية على تقدير موافقة ذي المزية متيقن، في حين أنَّ الترخيص في مخالفة ذي المزية على تقدير موافقة غير ذي المزية ليس متيقناً لاحتمال كون الترخيص تعينياً فيرجع فيه الى منجزية الاحتمال، باعتبار أنَّ المفروض في المقام هو كون العلم الإجمالي منجزاً لحرمة المخالفة القطعية لأنها ممكنة فتتساقط الأصول في الأطراف، فيصير احتمال انطباق المعلوم بالإجمال على أي طرف منجزاً له، إلا أنَّ الاضطرار أوجب الترخيص، والمتيقن منه الترخيص في جانب غير ذي المزية على تقدير موافقة ذي المزية، وأما في جانب ذي المزية فيجب الرجوع الى منجزية احتمال انطباق المعلوم بالإجمال عليه.
ومنه يظهر الفرق بين المقام وبين سابقه حيث تقدم أنَّ وجود المزية في أحد المحتملين لا يوجب تعيُّنه بناءً على مسلك قبح العقاب بلا بيان، لأنَّ العلم الإجمالي هناك ليس قابلاً للتنجيز حتى لحرمة المخالفة القطعية، فلا مجال حينئذٍ لدعوى تساقط الأصول من الطرفين وصيرورة الاحتمال منجَّزاً كما نقوله في محل الكلام بأنَّ العلم الإجمالي ينجز حرمة المخالفة القطعية في المقام لأنها ممكنة.
المقام الثالث دوران الأمر بين محذورين مع تعدد الواقعة وكون كلٍ منهما توصلياً
ومثاله ما إذا علم بوجوب فعل معين في يومي الجمعة والسبت أو علم حرمته فيهما ، كما إذا فرضنا أنه حلف إما على الجلوس في مكان معين يومي الجمعة والسبت أو حلف على عدم ذلك فيهما، فالواقعة هنا متعددة، وكل واقعة يدور أمرها بين محذورين، فهنا علم اجمالي بأن الجلوس في يوم الجمعة إما واجب وإما حرام، وكذا في يوم السبت، وهذا العلم لا يتمكن المكلف من موافقته القطعية، وهو يعني أنه لا يكون قابلاً للتنجيز فيكون كالعلم الإجمالي في المقام الأول، إذ لا يختلف الحال عنه بلحاظ كل واقعة بنفسها فيكون مخيراً في كل واقعة بين الفعل والترك.
نعم وقع الكلام في أنَّ هذا التخيير هل هو تخيير ابتدائي بمعنى أنه يلزمه في الواقعة الثانية أن يختار نفس ما اختاره في الواقعة الأولى، أو استمراري بمعنى أن له أن يختار في الواقعة الأولى أحد المحتملين وفي الثانية يختار المحتمل الآخر؟