الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

45/06/20

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/ أصالة التخيير / المقام الثاني

ذكرنا أنه يمكن أن يقال إنَّ الصحيح هو الالتزام بحرمة المخالفة القطعية سواءً قلنا بالاقتضاء أو قلنا بالعلية التامة، أما بناءً على الاقتضاء والتوسط في التنجيز فواضح، ويعني أنَّ العلم الإجمالي لا يؤثر في وجوب الموافقة القطعية إلا أنَّ تأثيره في حرمة المخالفة القطعية باقٍ حلى حاله ولا موجب لرفع اليد عنه.

وأما على القول بالعلية التامة فدعوى منجزية العلم الاجمالي لوجوب الموافقة القطعية لا تتم في محل الكلام، وإنما يمكن الالتزام بذلك في مسألة الاضطرار، وعليه لا مانع من التفكيك بينه وبين وجوب الموافقة القطعية في محل الكلام، بل لا يكون علة تامة في المقام.

والحاصل: إنَّ منجزية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية بنحو التعلية التامة إنما يتم في غير حالة العجز التكويني عن الموافقة القطعية كما في موارد الاضطرار فإنَّ المكلف ليس عاجزاً تكويناً عن الموافقة القطعية لتمكنه من ترك الطرفين، وحيث أنه مضطر لفعل أحدهما رخص له الشارع في ارتكاب أحد الطرفين، فيمكن أن يلتزم بالعلية التامة، بمعنى أنه لا موجب لرفع اليد عنها - إذا التزمنا بها أساساً - وذلك لأنَّ حكم العقل بالعلية التامة بتمام ملاكاته موجود هناك باعتبار أنَّ الترخيص لأجل الاضطرار شرعي لا عقلي، ولذا استدلوا عليه بأدلة الاضطرار الشرعية، وأما الترخيص العقلي فإنما يكون في موارد العجز التكويني، وهذا الترخيص الشرعي يتنافى مع العلية التامة للتنجيز ولا يمكن الجمع بينهما إلا بالالتزام بالتوسط في التكليف، وأما في محل الكلام فلا يصح القول بالعلية التامة لأنَّ الحاكم بالتخيير هو العقل، وحكم العقل هذا ينافي العلية التامة، لوضوح استحالة أن يحكم العقل بحكمين متنافيين فلا بد بعد فرض حكم العقل بالترخيص من الالتزام بعدم العلية التامة في حالة العجز التكويني، وحينئذٍ يمكن الالتزام بحرمة المخالفة القطعية على أساس التوسط في التنجيز، وفي المثال المتقدم يُلتزم بحرمة الصلاة بلا قصد القربة.

والنتيجة نلتزم بحرمة المخالفة القطعية سواءً قلنا بالعلية أو قلنا الاقتضاء

ومنه يظهر أنَّ من يقول بالعلية التامة يمكنه الالتزام بحرمة المخالفة القطعية في مسألة الاضطرار عن طريق التوسط في التكليف، وكذا يمكنه الالتزام بالحرمة في المقام لما ذكرنا من أنَّ العلم الإجمالي في مورد العجز التكويني لا يكون علة تامة لوجوب الموافقة القطعية، وحينئذٍ يمكن الالتزام بالحرمة في محل الكلام على أساس التوسط في التنجيز.

ثم إنه قد يقال بعدم إمكان الالتزام بحرمة المخالفة القطعية في المقام حتى على القول بالاقتضاء، وذلك لأنَّ المقام ليس من قبيل الاضطرار الى أحد الطرفين لا بعينه، وإنما هو من قبيل الاضطرار الى أحد الطرفين بعينه، والصحيح في هذه المسألة هو سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية وجريان البراءة في الطرف الآخر، وبعبارة أخرى تجوز المخالفة القطعية، والوجه فيه يتضح بعد بيان أمرين:

الأمر الأول: إنَّ المفروض في محل الكلام هو تساوي المحتملين وعدم وجود مزية لأحدهما على الآخر لا احتمالاً ولا محتملاً.

الأمر الثاني: إنَّ عبادية الفعل بمعنى الاتيان به بقصد القربة تتوقف على محبوبيته ورجحانه في قبال تركه، وأما إذا فرضنا عدم رجحان الفعل فلا يعقل التقرب به لأنَّ الفعل مع فرض التساوي احتمالاً ومحتملاً يدور أمره بين أن يكون محبوباً للمولى وبين أن يكون مبغوضاً له، ومع تساوي الاحتمالين لا يمكنه أن يأتي به قاصداً التقرب به الى المولى.

وإذا اتضح هذان الأمران فحينئذٍ يقال:

إنَّ المكلف بعد أن تعذر عليه امتثال كلا الحكمين وبعد فرض كونه مضطراً الى أحدهما يصبح غير قادر على الاتيان بالفعل بنحو قربي، لأنه يتوقف كما تقدم على أرجحية الفعل من الترك، وفي المقام لا أرجحية لتساويهما بالنسبة الى المولى، لأنَّ حق الطاعة للمولى يقتضي عدم المخالفة القطعية، ونسبته الى الطرفين على حد سواء، وعليه يسقط الوجوب العبادي على تقدير ثبوته لعدم القدرة على امتثاله، مما يعني أنَّ المرأة في المثال مضطرة الى مخالفة الوجوب العبادي بعينه، وحينئذٍ يكون احتمال الحرمة مشكوكاً بالشك البدوي فتجري فيه البراءة، فتجوز المخالفة القطعية في محل الكلام، فهل يمكن الالتزام بذلك؟

وذكرت لهذا الاشكال وجوه من الأجوبة، ونذكر الأهم، وحاصله:

يمكن الاتيان بالفعل بقصد القربة ولكنه بداعي التخلص من المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال، فتصلي المرأة مع قصد القربة للتخلص من المخالفة القطعية، وهذا داعٍ قربي بلا إشكال.

فمن الصعوبة بمكان إدخال محل الكلام في مسألة الاضطرار الى أحد الطرفين بعينه ومن ثم اسقاط منجزية العلم الإجمالي وإجراء الأصول المؤمنة في الطرف الآخر، فيبقى المقام داخلاً في مسألة الاضطرار الى أحد الطرفين لا بعينه.