45/06/18
الموضوع: الأصول العملية/ أصالة التخيير / المقام الثاني
تقدم أنَّ القول بمنجزية العلم الاجمالي لحرمة المخالفة القطعية في مسألة الاضطرار وفي محل الكلام مبني على القول بالاقتضاء، نعم هو لا ينجِّز وجوب الموافقة القطعية، وهذا هو معنى التوسط بالتنجيز، كما أنَّ القول بسقوط العلم الإجمالي عن المنجزية رأساً مبني على القول بالعلية التامة.
ووافق صاحب الكفاية قده الآخرين حيث التزموا بالمنجزية لحرمة المخالفة القطعية في دوران الأمر بين محذورين، واستدلوا له بالوجه التالي:
إنَّ مجرد عدم القدرة على الموافقة القطعية لا يوجب سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية رأساً بعد فرض التمكن من المخالفة القطعية، بل العلم الإجمالي ينجِّز حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة الاحتمالية للقدرة عليها وإن كان لا ينجِّز وجوب الموافقة القطعية لعدم القدرة عليها، وهذا هو المقصود بالتوسط في التنجيز.
وأما في مسألة الاضطرار الى أحد الطرفين لا بعينه فقد ذهبوا الى منجزية العلم الاجمالي لحرمة المخالفة القطعية أيضاً للقدرة عليها فلا مانع من أن يكون العلم الإجمالي منجزاً لها، نعم لا ينجِّز وجوب المخالفة القطعية لعدم القدرة عليها باعتبار الاضطرار الى ارتكاب أحد الطرفين، وخالف صاحب الكفاية قده في ذلك وذهب الى سقوط العلم الإجمالي رأساً وقال بجريان البراءة في الطرف الآخر المقابل للطرف الذي رفع به المكلف اضطراره.
والقول بالمنجزية بمعنى التوسط في التنجيز في محل الكلام وفي مسألة الاضطرار يكون مقبولاً ومعقولاً بناءً على القول بالاقتضاء لأنَّ العلم الإجمالي في حد نفسه على هذا المبنى لا يمنع من الترخيص في الأطراف، ولا منافاة بين هذا الترخيص وبين بقاء تأثير العلم الإجمالي في حرمة المخالفة القطعية، كما لا منافاة بين هذا الترخيص وبين بقاء العلم الإجمالي مؤثراً في وجوب الموافقة القطعية، لأنَّ المفروض أنَّ تأثيره على نحو الاقتضاء لا العلية فهو مؤثر إذا لم يحتف بالمانع، وفي المقام الترخيص في بعض الأطراف يكون مانعاً من تأثير العلم الإجمالي في وجوب الموافقة القطعية، فإذا رخص الشارع في ارتكاب أحد الطرفين لمكان الاضطرار فلا تجب الموافقة القطعية، لكن لا موجب لرفع اليد عن منجزيته لحرمة المخالفة القطعية بعد فرض قدرة المكلف عليها، فتحرم عليه المخالفة القطعية ولا تجب عليه الموافقة القطعية، ولذا لا يرد الاشكال على من يلتزم بالتوسط في التنجيز هنا وفي مسألة الاضطرار أيضاً إذا كان بانياً على الاقتضاء.
وأما على القول بالعلية التامة فالقول بالتوسط بالتنجيز لا يكون مقبولاً، وذلك لأنَّ الترخيص في بعض الأطراف ولو لأجل الاضطرار في تلك المسألة ولعدم القدرة في محل الكلام ينافي حكم العقل بمنجزية العلم الإجمالي بنحو العلية التامة لكونه ترخيصاً فيما يرى العقل استحالته وقبحه، وعليه فلا يمكن الجمع بين الترخيص وبين بقاء العلم الإجمالي على منجزيته، فإذا ثبت الترخيص لمكان الاضطرار أو لعدم القدرة فحينئذٍ إن أمكن دعوى زوال العلم الإجمالي فلا مشكلة، لكن لا مجال لهذه الدعوى لوضوح بقائه، والاضطرار لا يوجب زواله، وما دام العلم الإجمالي باقياً فمنجزيته لوجوب الموافقة القطعية باقية، ويستحيل زوالها وإلا لزم خلف فرض العلية التامة.
وعليه فلا مجال للقول بأنَّ المنجزية تسقط بلحاظ الموافقة القطعية لأنَّ ذلك يعني التفكيك بين العلة التامة وبين المعلول، وعليه يقال لا بد من التصرف في متعلق العلم الإجمالي أي في التكليف المعلوم بالإجمال، إذ يستحيل بقاء هذا التكليف الواقعي على حاله مع العلم الإجمالي به المفروض كونه علة تامة لوجوب الموافقة القطعية مع الترخيص في أحد الطرفين لمكان الاضطرار، فلا بد من التصرف في متعلق العلم الإجمالي بتحويل التكليف من التعيين الى التخيير، أي أنَّ ثبوت التكليف الواقعي في أحد الطرفين يتقيد بتطبيق الاضطرار على الطرف الآخر، بمعنى أنَّ الحرمة الواقعية المعلومة بالإجمال تثبت في هذا الطرف بشرط رفع الاضطرار بالطرف الآخر، فالتكليف الواقعي بعد أن كان تعييناً ثابتاً في النجس الواقعي صار تخييرياً أي أنه يثبت في هذا الطرف إذا اختار المكلف رفع اضطراره في الطرف الآخر، ويثبت في الطرف الآخر إذا اختار المكلف رفع اضطراره بهذا الطرف، فتكون الحرمة تخييرية، وهذا يعني ثبوت التكليف في كلٍ من الطرفين مشروطاً بمخالفته في الآخر، وهذا يسمى بالتوسط في التكليف باعتبار أنَّ التكليف يكون ثابتاً في هذا الطرف على تقدير رفع الاضطرار بالطرف الآخر ويكون ثابتاً في ذاك الطرف على تقدير رفع الاضطرار بهذا الطرف.
فاتضح أنه بناءً على العلية لا مجال للقول بالتوسط في التنجيز وإنما لا بد من الالتزام بالتوسط في التكليف.
إذن بالاقتضاء والتوسط في التنجيز أمكن الالتزام بمنجزية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية في المقام وفي مسألة الاضطرار الى أحدهما لا بعينه.
وأما إذا قلنا بالعلية التامة فلا يمكن الالتزام بمنجزيته لحرمة المخالفة القطعية لأنَّ المفروض أنَّ العلم الإجمالي علة تامة لوجوب الموافقة وحرمة المخالفة، والمفروض أنَّ هذا العلم لا يستطيع أن ينجز وجوب الموافقة القطعية لمكان الاضطرار، وهذا يستلزم سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية رأساً حتى بالنسبة الى حرمة المخالفة القطعية لعدم إمكان الالتزام بالتوسط في التنجيز بناءً على العلية التامة لأنه تفكيك بين العلة التامة وبين المعلول وهو غير معقول، نعم يمكن الالتزام بمنجزية هذه المخالفة القطعية بالالتزام بالتوسط في التكليف لأنه يمنع من ارتكاب الطرف الآخر فتتنجز عليه المخالفة القطعية لكن لا بملاك التوسط في التنجيز وإنما بملاك التوسط في التكليف.
لكن الكلام في أنَّ هذا التوجيه لإثبات حرمة المخالفة القطعية في مسألة الاضطرار هل يجري في محل الكلام بناءً على القول بالعلية التامة أو لا؟
مع ملاحظة إنَّ التردد في محل الكلام إنما هو بين الوجوب والتحريم، والتردد هناك في الحرمة في هذا الطرف أو في ذاك.