45/06/17
الموضوع: الأصول العملية/ أصالة التخيير / المقام الثاني
تتمة مسألة دوران الأمر بين محذورين وأنَّ أحدهما على الأقل تعبدي، ومناقشة رأي المحقق الخراساني فيها:
قالوا إنَّ هذه المسألة تدخل في مسألة الاضطرار الى أحد الطرفين لا بعينه، وذلك باعتبار أنَّ المكلف لا يتمكن من الموافقة القطعية، وهذا يعني أنه مضطر لمخالفة أحد التكليفين لا بعينه لأنه مضطر إما الى الفعل أو الى الترك، ومقتضى دخول محل الكلام في تلك المسألة هو الالتزام بالمختار فيها، فالذي يختار في تلك المسألة منجزية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية بمعنى عدم جواز ارتكاب كلا الطرفين لا بد أن يلتزم بذلك في محل الكلام، وفي المثال يحرم على المرأة أن تصلي بلا قصد القربة.
وأما المحقق الخراساني قده فقد خالف في ذلك وفرَّق بين المقامين، فذهب الى أنَّ العلم الاجمالي ينجِّز حرمة المخالفة القطعية في محل الكلام، وفي تلك المسألة ذهب الى أنَّ العلم الاجمالي لا ينجِّز حرمة المخالفة القطعية، ولذا جوّز في تلك المسألة لمن يرفع اضطراره بأحد الطرفين أن يرتكب الطرف الآخر، وقال إنَّ الأصول المؤمنة تجري لرفع حرمته، وهذا يعني أنَّ العلم الإجمالي لا ينجِّز حرمة المخالفة القطعية.
وحاصل دعواه هو أنَّ العلم الإجمالي يسقط عن منجزية حرمة المخالفة القطعية، وذلك هو لأنَّ الاضطرار الى أحد الطرفين يوجب الترخيص في ارتكاب أحدهما تخييراً على كل حال، أي وإن كان ما اختاره هو الحرام الواقعي، فهذا الترخيص ينافي التكليف المعلوم بالإجمال لاحتمال مطابقة الحرام الواقعي لما اختاره، وعلى هذا التقدير يكون حلالاً، وهذا يعني أنَّ المكلف لا يعلم بالتكليف الفعلي على كل تقدير لأنه على تقدير أن يكون الحرام هو ما اختاره لرفع اضطراره فلا حرمة فعلية بسبب الاضطرار، وعلى تقدير أن يكون الطرف الآخر يكون حراماً بالفعل، وحيث لا يعلم بهذا التقدير يكون شاكاً في التكليف الفعلي فتجري البراءة والتأمين عنه، وهذا يعني أنَّ هذا العلم الإجمالي لا ينجِّز حرمة المخالفة القطعية، كما لا ينجِّز وجوب الموافقة القطعية للاضطرار فيكون حكمه حكم الشك البدوي.
والسؤال هنا لماذا فرّق المحقق الخراساني بين تلك المسألة وبين محل الكلام، أي لماذا لا يجري ما ذكره هناك في هذه المسألة؟ فإنَّ المفروض في محل الكلام عدم القدرة على الموافقة القطعية وهناك كذلك، غاية الأمر أنَّ عدم القدرة هنا تكويناً وعدم القدرة هناك للاضطرار لرفع العطش ونحوه، أي أنه في محل الكلام مضطر الى مخالفة أحد الطرفين لا بعينه، فإذا كان ذلك موجباً لسقوط العلم الإجمالي عن المنجزية رأساً حتى بلحاظ حرمة المخالفة القطعية فليكن في محل الكلام كذلك، فما هو الفرق بين المقامين؟
وقد التزم هنا بعدم سقوط العلم الإجمالي والتزم وفاقاً لغيره بالتوسط في التنجيز، بمعنى أنَّ التكليف المعلوم بالإجمال ينجِّز حرمة المخالفة القطعية ولا ينجِّز وجوب الموافقة القطعية.
ولا نريد الآن التعرض الى مسألة الاضطرار الى أحد الطرفين لا بعينه، وسيأتي الحديث عنها مفصلاً، وإنما نشير الى ما في تلك المسألة من المباني التي تُلقي بظلالها على محل الكلام، فنقول:
إنَّ الأمر يرتبط بما نختاره في مسألة منجزية العلم الإجمالي، وهناك رأيان معروفان فيه وهما العلية التامة والاقتضاء، وبيانهما:
أما الأول فيعني أنَّ العلم الإجمالي علة تامة لوجوب الموافقة القطعية ولحرمة المخالفة القطعية، ويترتب على الالتزام به أنَّ الترخيص في بعض الأطراف يكون منافياً للعلم الإجمالي ولحكم العقل بالمنجزية، وبناءً عليه يقال: لا إشكال في سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز في مسألة الاضطرار إما لأنه لا يكون متعلقاً للتكليف الفعلي على كل تقدير لاحتمال أن يكون الحرام فيما اختاره والحرمة مرتفعة بحسب الاضطرار، وإما لأنَّ نفس الترخيص في أحد الطرفين ينافي العلم الإجمالي ومنجزيته بنحو العلية التامة.
وأما الالتزام بأنَّ العلم الإجمالي لا يكون منجزاً الوجوب الموافقة القطعية ويكون منجزاً لحرمة المخالفة القطعية فغير صحيح، لأنه يعني التفكيك بين العلة التامة ومعلولها، وعليه لا بد من الالتزام بسقوط العلم الإجمالي عن المنجزية رأساً.
والحاصل: إنَّ المفروض في محل الكلام الاضطرار الى أحد الطرفين لا بعينه، وهو يلازم الترخيص في أحدهما لا بعينه، وهذا ينافي العلم الإجمالي ويوجب سقوطه عن المنجزية، لأنه لا يعقل الجمع بين الترخيص من جهة وبين بقاء العلم الإجمالي على منجزيته بنحو العلية التامة لوجوب الموافقة القطعية وحرمة المخالفة القطعية من جهة أخرى!
وبناءً عليه يجوز ارتكاب الطرف الآخر بعد رفع اضطراره بالطرف الأول.
وأما الثاني - أي الاقتضاء - فيعني أنَّ العلم الإجمالي يقتضي وجوب الموافقة القطعية، بمعنى أنه إذا اقترن بعدم المانع وجبت الموافقة القطعية، وأما إذا وجد مانع من تأثير المقتضي في المُقتضَى فلا تجب الموافقة القطعية، وحينئذٍ لا يكون الترخيص في بعض الأطراف ممنوعاً.
نعم قد يثبت وجوب الموافقة القطعية لتعارض الأصول في الأطراف وتساقطهما وبقاء كل طرف بلا مؤمن إلا أنه ذلك لجهة أخرى لا لمنجزية العلم الإجمالي.
وحينئذٍ لا يكون الترخيص في أحد الطرفين لأجل الاضطرار مانعاً من بقاء العلم الإجمالي على منجزيته لعدم المنافاة بينهما، لأنَّ الترخيص المذكور لا ينافي منجزية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية، كما لا ينافي منجزية العلم الاجمالي لوجوب الموافقة القطعية إذا كان تأثيره على نحو الاقتضاء.
ومنه يظهر أنَّ القول بالمنجزية بالنسبة الى حرمة المخالفة القطعية في مسألة الاضطرار وفي فرض العجز التكويني كما في محل الكلام مبني على القول بالاقتضاء، كما أنَّ القول بعدم المنجزية مبني على القول بالعلية التامة.