الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

45/06/16

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/ أصالة التخيير / المقام الثاني

المقام الثاني: دوران الأمر بين محذورين مع وحدة الواقعة وكون أحد الطرفين على الأقل تعبدياً

وذلك كما إذا فرضنا أنَّ المرأة شكت في أنها حائض أو طاهر – مع عدم إمكان إثبات أحد الطرفين بالاستصحاب – فبناءً على الحرمة النفسية للصلاة بالنسبة الى الحائض يدور أمر الصلاة بين الوجوب وبين التحريم، والوجوب على تقديره تعبدي.

ويختلف محل الكلام عن المقام الأول بإمكان المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال هنا، وذلك بأن تصلي من دون قصد القربة، فتكون قد خالفت الحرمة بالإتيان بالفعل، وخالفت الوجوب بالإتيان بالفعل من دون قصد التقرب، نعم الموافقة القطعية غير ممكنة هنا كالمقام الأول.

قالوا إنَّ مثل هذا العلم الإجمالي يحكم العقل بحرمة مخالفته القطعية، فلا يجوز لها أن تصلي بلا قصد القربة، فإما أن تصلي مع القربة وإما أن تترك الصلاة، وفي كل منهما مخالفة وموافقة احتمالية، والسر في هذا الحكم العقلي هو أنَّ العلم الإجمالي هنا قابل لتنجيز حرمة المخالفة القطعية ولا داعي لرفع اليد عن ذلك، وبناءً عليه لا يجوز لها ترك امتثال كلا الحكمين، وإن كان لا يجب عليها امتثالهما معاً لعدم القدرة.

وهذا ما يسمى بالتوسط بالتنجيز، بمعنى أنَّ التكليف يكون ثابتاً على كل تقدير لكن التنجيز يكون ثابتاً بالنسبة الى حرمة المخالفة القطعية ولا يكون ثابتاً بالنسبة الى وجوب الموافقة القطعية، فالتبعيض في التنجيز لا في التكليف، في مقابل التوسط في التكليف الذي يكون فيه نفس التكليف ثابتاً على تقدير وغير ثابت على تقدير آخر، وذلك بأن يقال في محل الكلام أنَّ التكليف موجود بالنسبة الى حرمة المخالفة القطعية، وأما بالنسبة الى الموافقة القطعية فغير موجود.

وبعبارة أخرى: إنَّ المكلف في هذا المقام مضطر الى مخالفة أحد التكليفين لا بعينه لأنه غير قادر على موافقتهما فيتنجز عليه أحد التكليفين لا بعينه، وسيأتي أنَّ الحكم في مسألة الاضطرار الى أحد الطرفين لا بعينه هو تنجيز حرمة المخالفة القطعية، كما لو علم بنجاسة أحد الإناءين واضطر الى شرب أحدهما لا بعينه، فوقع الكلام في جواز ارتكاب الثاني، قالوا أنَّ العلم الإجمالي هنا ينجِّز حرمة المخالفة القطعية فلا يجوز ارتكاب الثاني، وبناءً عليه لا بد من الالتزام بأنَّ العقل يحكم بوجوب الاتيان بأحدهما، ففي محل الكلام يُخير العقل المرأة بين أن تصلي مع التقرب وبين أن تترك الصلاة.

ومنه يظهر أنَّ الحكم بالتخيير هنا وفي المقام الأول واحد وهو التخيير العقلي، فهما يشتركان في النتيجة وإن اختلفت جهات البحث في كل منهما، فالوجوه المذكورة هناك لا تجري هنا من قبيل جريان البراءة أو أصالة الاباحة في الطرفين، وذلك لأنَّ إجراء البراءة في محل الكلام يستلزم الترخيص في المخالفة القطعية، بينما لا يستلزم جريانها في المقام الأول ذلك، لأنَّ المفروض عدم قدرة المكلف على المخالفة القطعية.

وكذلك يختلفان في الحكم بالتخيير فإنه كان في المقام الأول بملاك أنَّ أحدهما حاصل قهراً المعبر عنه باللاحرجية العقلية، لكن لا بمعنى الالزام بأحدهما لأنه يكون من طلب الحاصل، وأما هنا فالتخيير ليس بذاك الملاك لوضوح أنَّ أحدهما ليس حاصلاً قهراً لإمكان أن تأتي بالثالث – وهو الصلاة من دون قصد التقرب – فيمكن التخيير بمعنى الالزام بأحد الأمرين ولا يكون من طلب الحاصل.

وقد عرفت أنه في أنَّ المقام يدخل في مسألة الاضطرار الى أحد الأمرين لا بعينه، وإن كان سبب الاضطرار يختلف في محل الكلام عن تلك المسألة، فسببه هنا هو العجز التكويني باعتبار أنَّ المرأة لا تخلو من أحدهما فهي مضطرة الى مخالفة أحدهما، وأما هناك فالاضطرار ليس بسبب العجز التكويني كما في مثال الاضطرار الى شرب أحد الاناءين وإنما هو مضطر لارتكاب أحدهما لدفع الضرر عن نفسه أو عن نفس محترمة، وحينئذٍ فمن يختار في مسألة الاضطرار الى أحد الطرفين لا بعينه تنجيز العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية وعدم جواز ارتكاب الطرف الآخر لا بد أن يقول بتنجيز حرمة المخالفة القطعية في محل الكلام، وفي المثال لا يجوز أن تصلي بلا قصد القربة.

وخالف فيه المحقق الخراساني قده حيث فرّق بين المقام وبين تلك المسألة فذهب الى منجزية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية في المقام والى عدم تنجيزه لها في تلك المسألة، وذلك باعتبار أنه يرى سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية رأساً في تلك المسألة، حتى عن حرمة المخالفة القطعية، ولازمه تجويز ارتكاب الطرف الآخر غير ما يرفع به اضطراره، وأما الوجه في سقوطه عن التنجيز فهو ما ذكره من أنَّ الاضطرار الى أحدهما لا بعينه يوجب الترخيص في ارتكاب أحدهما تخييراً بحيث لو صادف أنَّ ما اختاره المكلف كان هو الحرام واقعاً كان حلالاً بسبب الاضطرار، وهو ينافي التكليف المعلوم بالاجمال لاحتمال انطباقه على ما اختاره، وعلى هذا الاحتمال يكون حلالاً لأنه شك في التكليف، وهو مورد لإجراء الأصول المؤمنة، وهذا معناه سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز حتى بلحاظ حرمة المخالفة القطعية.