الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

45/06/12

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/ أصالة التخيير / المقام الأول

كان الكلام فيما لو كان في أحد الطرفين مزية إما بلحاظ الاحتمال وإما بلحاظ المحتمل، فهل يؤثر ذلك على النتيجة التي انتهينا إليها في فرض عدم وجود المزية أم يجري فيه الكلام السابق؟

قلنا أنَّ الكلام تارة يكون بناءً على قاعدة قبح العقاب بلا بيان، وأخرى يكون على مسلك حق الطاعة ومنجزية الاحتمال، وعلى الأول فتارة نفترض المزية في الاحتمال وأخرى نفترضها في المحتمل، فإذا كانت المزية في الاحتمال بأن كان الاحتمال في أحد الطرفين أقوى من الآخر فمن الواضح أنه لا يمكن الالتزام بالتعيين لمجرد الاحتمال، لأنه لا يُنجِّز متعلقه حسب الفرض حتى إذا كان أقوى من الآخر، أو قل إنَّ هذا الاحتمال لا يرفع موضوع أدلة البراءة، وإنما يرفعه العلم أو ما يقوم مقامه من الأدلة المعتبرة شرعاً، وبناءً عليه لا بد من ملاحظة العلم الإجمالي وتحديد مقدار منجزيته.

وهناك مسلكان في منجزية العلم الإجمالي:

الأول: إنَّ العلم الإجمالي يُنجِّز الجامع، أي حرمة المخالفة القطعية دون وجوب الموافقة القطعية، وبناءً عليه لا يدخل في عهدة المكلف إلا لجامع، ومن الواضح أنَّ هذا العلم ليس له أثر في محل الكلام لعدم القدرة على المخالفة القطعية، والجامع ضروري الثبوت فلا يقبل التنجيز، ولو فرضنا أنَّ الجامع كان قابلاً للتنجيز لكن الفرد لا يتنجز بهذا العلم الإجمالي ولو كانت فيه مزية لوضوح أنَّ المزية لا تدخل في الجامع.

الثاني: إنَّ العلم الإجمالي يُنجِّز الواقع المعلوم بالإجمال، وهذا يعني أنه يُنجِّز وجوب الموافقة القطعية، وبمقتضى قاعدة الاشتغال يجب الفراغ اليقيني، ولا يقين بالفراغ إلا بالاحتياط، وهو معنى وجوب الموافقة القطعية، وحينئذٍ يقال إذا استحلت الموافقة القطعية لهذا العلم الإجمالي تصل النوبة الى الموافقة الظنية وهي تعني الأخذ بالاحتمال الأقرب الى الواقع، وهو الطرف ذو المزية وذلك باعتبار أنه في صورة عدم وجود المزية توجد هناك درجتان من الطاعة درجة الموافقة القطعية ودرجة الموافقة الاحتمالية، والأولى ضرورية العدم والثانية ضرورية الوجود، فالعلم الإجمالي لا يُنجِّز أحداهما، وأما في فرض وجود المزية فتوجد بعد درجة الموافقة القطعية درجتان أُخريان درجة الموافقة الظنية وهي تحصل بالعمل بذي المزية، ودرجة الموافقة الوهمية التي تحصل بالعمل بالطرف الآخر، وحينئذٍ يُدعى إذا استحالت الموافقة القطعية تصل النوبة الى الموافقة الظنية، فيتعين الأخذ بذي المزية ولا ينتقل الى الموافقة الوهمية.

وقد يقال في مقابل ذلك بأنَّ المفروض في محل الكلام عليّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية، كما أنَّ المفروض استحالة الموافقة القطعية، ولازم ذلك هو سقوط التكليف رأساً لاستحالة التكليف بغير المقدور، وإذا سقط التكليف فلا يبقى ما يكون منجِّزاً لوجوب الموافقة الظنية.

بل قد يدعى استحالة ما ذُكر وذلك باعتبار أنه يستلزم ما يُسمى بالتوسط في التكليف وهو محال، والمقصود به أنَّ التكليف يكون ساقطاً بلحاظ الموافقة القطعية ويكون ثابتاً بلحاظ الموافقة الظنية، وقد طبقوا ذلك في العلم الإجمالي إذا استحالت موافقته القطعية لكن أمكنت مخالفته القطعية كما لو كان أحد طرفي المعلوم بالإجمال واجباً تعبدياً فيمكن مخالفة هذا العلم الإجمالي مخالفة قطعية بأن يأتي بالفعل بلا قصد القربة، فيكون قد خالف جانب الحرمة لإتيانه بالفعل، وخالف جانب الوجوب لأنَّ الفعل بحسب الفرض تعبدي ولم يأت به بقصد التقرب.

وفي محل الكلام قيل بأنه يلزم التوسط في التكليف وذلك لأنَّ التكليف الواحد يسقط بلحاظ وجوب الموافقة القطعية ويكون ثابتاً بلحاظ الموافقة الظنية، وسيأتي الحيث عنه.

هذا كله على فرض أن تكون المزية في الاحتمال.

وأما إذا كانت المزية في المحتمل بأن كان أحد الطرفين على تقدير ثبوته أهم من الآخر أو محتمل الأهمية، كما لو كانت الحرمة أهم من الوجوب أو أحتمل ذلك، فهنا لا يأتي التفصيل السابق بين المسلكين في العلم الإجمالي، ولا يحكم بالتعيين، ولا أثر لهذا العلم الإجمالي أصلاً، أما على المسلك الأول فواضح لأن الجامع ضروري الثبوت فلا يقبل التنجيز، وأما على المسلك الثاني فلأنَّ الموافقة في كلٍ من الطرفين احتمالية ولا توجد درجات متفاوتة من الطاعة كما في السابق حتى يقال بأنه إذا استحالت الموافقة القطعية تصل النوبة الى الموافقة الظنية ولا ينتقل الى الموافقة الوهمية، بل الموجود درجتان فقط الموافقة القطعية وهي مستحيلة وضرورية العدم، والموافقة الاحتمالية وهي ضرورية الثبوت، فلا يكون العلم الاجمالي منجزاً لشيء منهما.

نعم يبقى احتمال أهمية مرتبة من التكليف في أحد الطرفين المعيَّن، وهذا داخل تحت التأمين لأنَّ المفروض عدم منجزية الاحتمال.

والذي يظهر من صاحب الكفاية قده استقلال العقل بالتعيين فيما إذا احتمل الترجيح في أحدهما كما هو الحال في موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير، ولعل الوجه فيه هو ما أشار إليه المحقق العراقي قده من أنَّ مناط حكم العقل بالتخيير إنما هو فقد المرجح، ومع وجوده لا يحكم العقل بالتخيير، وهو هنا موجود.

وبعبارة أخرى: إنَّ العقل إنما يحكم بالتخيير باعتبار أنَّ إلزامه بأحدهما المعيَّن ترجيح بلا مرجح، وأما مع وجود المرجح فلا يكون إلزامه بهذا الطرف ترجيح بلا مرجح وإنما مع هو المرجح ولو احتمالاً، وهو يكفي في حكم العقل بالتعيين.