الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

45/06/11

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/ أصالة التخيير / المقام الأول

جريان الاستصحاب في مسألة دوران الأمر بين محذورين

تعرضوا في ذيل مسألة دوران الأمر بين محذورين الى جريان الاستصحاب الذي ينتج نتيجة البراءة، وهو استصحاب عدم الوجوب واستصحاب عدم الحرمة بنحو الشبهة الحكمية، وهذا إذا كان الترديد ناشئاً من أمر مرتبط بالشارع كتعارض نصين واجمال النص وعدمه.

وقد يكون دوران الأمر بين محذورين بنحو الشبهة الموضوعية كما إذا كان الترديد ناشئاً من غير ذلك كحلف المكلف مع تردده في أنه حلف على فعل الشيء أو على تركه، كما لو حلف إما على الجلوس في المسجد في ساعة معينة أو على تركه فيها، فيدور أمر الجلوس بين الوجوب والتحريم وهذه شبهة موضوعية، وهنا يقع الكلام في جريان استصحاب عدم الحلف على الفعل واستصحاب عدم الحلف على الترك.

رأي المحقق النائيني قده:

ذكر المحقق النائيني قده أنَّ الاستصحاب لما كان من الأصول التنزيلية – بمعنى أنَّ دليله يدل على تنزيل المؤدى منزلة الواقع – فلا يمكن الجمع بين مؤدى الاستصحابين في الطرفين وبين العلم الاجمالي المفروض في محل الكلام، فإنه على هذا التقدير يكون الاستصحاب ناظراً الى الواقع وهو يعني أنَّ أدلة الاستصحاب تنفي الوجوب وتنفي التحريم معاً،

فلا يمكن الجمع بين مؤدى الاستصحابين وبين العلم الإجمالي بالإلزام، فإنَّ البناء على عدم وجوب الفعل وعدم حرمته واقعاً لا يجتمع مع العلم بوجوب الفعل أو حرمته واقعاً، ولذا منع من إجراء الأصول التنزيلية في أطراف العلم الإجمالي في محل الكلام، وهذا كالمنع من جريان الأمارة النافية للتكليف في كل طرف، إذ لا يمكن إجراء كلا الامارتين في كلا الطرفين، وهذا يعني وقوع التعارض بين الاستصحابين وتساقطهما.

والحاصل إنه وإن كان لا يلزم من جريان الاستصحاب في الطرفين المخالفة العملية ولكن يلزم من ذلك المخالفة الالتزامية للعلم الإجمالي، وذلك باعتبار البناء على أنَّ لله حكم إلزامي في هذه الواقعة مردد بين الوجوب والتحريم، وهو لا يجتمع مع البناء على عدم الوجوب وعدم التحريم.

فالذي يُفهم من كلامه أنه لا مشكلة في جريان الاستصحاب في كل طرف في نفسه وأنَّ أركانه تامة لكن الجمع بينهما غير ممكن للزوم المخالفة الالتزامية.

لكن ذلك لا يلزم من جريان أصالة البراءة لأنها ليست من الأصول التنزيلية، وإنما هي أصل عملي بحت فلا محذور في جريانها في الطرفين لتحقق موضوعها في كل طرف وهو عدم البيان، ولا يلزم من ذلك المخالفة العملية القطعية لعدم القدرة عليها، وأما المخالفة العملية الاحتمالية فهي حاصلة قهراً.

رأي السيد الخوئي قده:

وذهب السيد الخوئي في مقام التعليق على رأي المحقق النائيني قده الى أنه لا مانع من جريان الاستصحاب في الطرفين لأنه لا يلزم منه المخالفة العملية كما أعترف به المحقق النائيني، وأما لزوم المخالفة الالتزامية فلا محذور فيه، ولا دليل على حرمتها.

رأي السيد الشهيد قده:

والذي يظهر من السيد الشهيد قده هو أنَّ الخلاف مبني على المختار في باب الاستصحاب، وهل هو أصل تنزيلي مُطعم بشيء من الأمارية أم هو أصل عملي بحت، فعلى الأول لا يجري الاستصحاب، وعلى الثاني يجري بلا إشكال كالبراءة.

المختار:

الظاهر أنَّ المسألة لا تبتني على ذلك، فإنَّ السيد الخوئي قده يبني على أنَّ الاستصحاب أمارة ومع ذلك قال بجريانه في محل الكلام، وإنما الظاهر هو أنَّ المسألة مبنية على جواز المخالفة الالتزامية وعدم جوازها، فإن قلنا بجوازها فلا مانع من جريان الاستصحاب في الطرفين وإن قلنا بعدم جوازها كما هو ظاهر المحقق النائيني قده فلا بد من الالتزام بعدم جريانه، والصحيح أنه لا يوجد دليل واضح على حرمة المخالفة الالتزامية، فالحق مع السيد الخوئي قده ظاهراً.

وبناء عليه لا مانع من جريان الاستصحاب في الطرفين من هذه الجهة، ولكننا قد منعنا فيما تقدم من جريان البراءة فيهما.

ثم إنَّ ما تقدم كله إنما هو إذا لم يفرض وجود مزية لأحد الطرفين، وأما مع فرض وجودها إما بلحاظ أقوائية الاحتمال وإما بلحاظ أهمية المحتمل بأن يكون أحد الأمرين المعيَّن أهم عند الشارع أو محتمل الأهمية، فهل يأتي الكلام السابق بعينه بالرغم من وجود المزية أو أنَّ العقل يحكم بلزوم الأخذ بذي المزية؟

والاحتمالات في المقام:

الأول: عدم الفرق بين أن يكون لأحدهما مزية احتمالاً أو محتملاً أو لا يكون لأحدهما ذلك، ويأتي فيه الكلام المتقدم والمختار فيه.

الثاني: تعيُّن الأخذ بذي المزية سواءً كانت الأقوائية احتمالاً أو محتملاً مطلقاً.

الثالث: إنَّ تعيُّن الأخذ بذي المزية يختلف باختلاف المختار في فرض عدم جود المزية.

والظاهر أنَّ الثالث هو الأقرب والمراد به هو إذا قلنا بجريان الأصول النافية كالبراءة والاستصحاب في الطرفين في فرض عدم المزية فنقول يجري الكلام السابق بعينه في فرض وجود المزية، وذلك لأنَّ الأصول النافية للتكليف موضوعها متحقق في كل واحد من الطرفين، لأنَّ قوة الاحتمال وكذا أهمية المحتمل في أحدهما على فرض ثبوته لا يمنع من جريان البراءة في كل طرف لعدم كونها حجة كأصل الاحتمال، أي أنَّ هذه المزية لا تعدو أن تكون احتمالاً ولا توجب رفع موضوع البراءة أو الاستصحاب.

وأما إذا قلنا في فرض عدم المزية هناك بعدم جريان الأصول النافية وأنَّ الحكم هو التخيير العقلي فحينئذٍ ينفتح المجال للكلام عن أنَّ العقل الحاكم بالتخيير في فرض عدم المزية هل يحكم بالتعيين في فرض وجود المزية في أحدهما المعين أو لا؟

والصحيح هو أننا تارة نتكلم بناءً على قاعدة قبح العقاب بلا بيان وعدم منجزية الاحتمال، وأخرى نتكلم بناءً على مسلك حق الطاعة ومنجزية الاحتمال، أما على الأول فتارة نفترض أنَّ المزية في الاحتمال بأن يكون احتمال أحدهما أكبر وأقوى من احتمال الآخر، وأخرى نفترض أنَّ المزية في المحتمل بأن يكون أحدهما المعين أهم من الآخر أو محتمل الأهمية، أما الأول فمن الواضح أنه لا يمكن الالتزام بالتعيين لمجرد الاحتمال لأنه لا يُنجز متعلقه حسب الفرض حتى إذا كان أقوى من احتمال الطرف الآخر فكيف يحكم العقل بتعيُّنه وتنجزه، وعليه لا بد من الرجوع الى العلم الإجمالي المفروض في محل الكلام.