الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

45/06/10

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/أصالة التخيير/المقام الأول

 

تتمة الكلام القول الرابالتخيير الشرعي بين الفعل والترك -:

اُشكل عليه بأنَّ المقصود من التخيير إن كان هو التخيير الشرعي في المسألة الأصولية كالتخيير عند تعارض الخبرين المختص بالفقيه فلا دليل عليه.

وإن كان المقصود منه هو التخيير في المسألة الفرعية للمكلف نفسه - كالتخيير بين خصال الكفارة، والتخيير بين القصر والتمام في أماكن التخيير ومرجعه الى وجوب الجامع بين الأمور المُخيَّر بينها والغرض منه هو إلزام المكلف بالإتيان بأحدها - فإنه في محل الكلام غير معقول، لأنَّ المفروض في المقام هو أنَّ المكلف ملزم بأحد الأمرين قهراً ولا يمكنه تركهما معاً، فطلب أحدهما منه يكون من طلب الحاصل وهو محال.

والتعليق عليه:

هناك كلام في إمكان التخيير الشرعي في المسألة الأصولية، فقد يقال بإمكانه لنفي احتمال تعيين الترك احتياطاً بدعوى أنَّ ترك المفسدة أولى من جلب المصلحة، ولكن هذا ليس حكماً بالتخيير شرعاً وإنما مآله الى عدم وجوب الاحتياط من ناحية الترك ونفي احتمال تعين الترك من جهة تلك القاعدة المدعاة.

وعلى تقدير إمكان التخيير الشرعي في المسألة الأصولية يكفي في رده عدم الدليل عليه.

قد يقال: يوجد دليل شرعي على التخيير في المسألة الأصولية، وهو نفس ما دلَّ على التخيير في باب تعارض الخبرين، وذلك باعتبار إمكان إلغاء خصوصية الخبرين بدعوى أنَّ الخبر أُخذ في موضوع التخيير لأنه يورث احتمال مضمونه كاحتمال الوجوب واحتمال الاباحة، فإذا فرضنا أنَّ الخبرين دلَّا على احتمال الوجوب وعلى احتمال الحرمة فبإلغاء الخصوصية يكون دليل التخيير شاملاً لمحل الكلام.

أقول: هذا غير مقبول وذلك باعتبار أنَّ التعدي من الخبرين المتعارضين الى سائر الأمارات ممنوع عند المحققين، ولم يلتزموا بالتخيير عند وقوع التعارض بين أمارات أخرى، فما ظنك بالتعدي من مورد الخبرين الى مجرد احتمال الوجوب واحتمال التحريم! والسر في ذلك هو ما ذُكر في باب التعارض من أنَّ النوبة لا تصل الى تعارض الخبرين إلا بعد استكمال كل واحد من الخبرين لشرائط الحجية، وهذا له مدخلية في الحكم بالتخيير بينهما، وإلا قد يلزم من عدمه طرح كلا الحجتين، وهذا ما لا يمكن فرضه في محل الكلام إذ لا توجد حجة على الوجوب ولا على التحريم وإنما هناك احتمال لكل منهما، فكيف يمكن إلغاء خصوصية الحجية في الخبرين والتعدي الى غير الحجة! والعمدة في الاشكال هو عدم الدليل على التخيير في المسألة الأصولية.

وأما التخيير في المسألة الفرعية فما ذُكر فيها - من أنَّ التخيير الشرعي بين الفعل والترك غير معقول لأنه من طلب الحاصل - صحيح.

وأما القول الثاني وهو التخيير بين الفعل والترك عقلاً مع جريان أصالة الاباحة شرعاً وهو مختار صحاب الكفاية، فأما التخيير عقلاً فباعتبار أنَّ المكلف لا يخلو من أحدهما قهراً، فلا مانع بنظر العقل من ارتكاب الفعل أو الترك، وأما الحكم الظاهري بالإباحة فدليله أخبار أصالة الاباحة نحو (كل شيء يكون فيه حلال وحرام فهو حلال لك أبداً حتى أن تعرف الحرام منه بعينه فتدعه)، على تقدير شمولها لمحل الكلام.

واعترض بوجوه:

الأول إنَّ دليل أصالة الاباحة ظاهر في اختصاصه بما إذا كان الطرف المقابل لاحتمال الحرمة هو احتمال الاباحة، أي ظاهر في الشبهة التحريمية، فلا يشمل محل الكلام لأنَّ الاحتمال المقابل لاحتمال الحرمة هو احتمال الوجوب.

وقد يُدفع بما تقدم من إرجاع الوجوب الى الحرمة، وذلك بالالتزام بأنَّ الوجوب يعني حرمة ترك الفعل، وهذا يعني دوران الأمر بين حرمة الفعل وحرمة الترك، فيمكن التمسك بأدلة الإباحة الشرعية لأنَّ كلاً منهما حرمة مشكوكة فيمكن أن تجري أصالة الإباحة فيهما.

وفيه أولاً: لو تم ما ذُكر فهو لا يعني أنَّ الاحتمال المقابل لاحتمال التحريم هو احتمال الاباحة بل هو حرمة الترك، وهو غير مورد أصالة الاباحة.

وثانياً: إنَّ إرجاع الوجوب الى الحرمة غير صحيح، لأنَّ الوجوب ينشأ من مصلحة في متعلقه بخلاف التحريم الذي ينشأ من مفسدة في متعلقه.

الثاني: إنَّ دليل الاباحة الشرعية مختص بالشبهات الموضوعية ومحل الكلام في الشبهة الحكمية.

وأما القول الثالث هو التخيير عقلاً بين الفعل والترك، وهو مختار المحقق النائيني قده، فدليله هو ما تقدم من أنَّ البراءة لا تجري في محل الكلام لمحذور إثباتي، وكذا لا تجري أصالة الاباحة لعدم الدليل، كما أنَّ التخيير الشرعي في المسألة الأصولية لا دليل عليه وفي المسألة الفرعية غير معقول، فلا حكم ظاهري مجعول في مورد دوران الأمر بين محذورين، فلم يبق إلا حكم العقل بالتخيير بين الفعل والترك.

لكن هذا التخيير ليس كالتخيير بين القصر والتمام الذي يعني إلزام المكلف بأحد الأمرين، فإنَّه هنا فيكون من طلب الحاصل وإنما هو بمعنى التخيير التكويني الطبعي لأنَّ المكلف لا يخلو من أحد الأمرين إما الفعل وإما الترك.

ومنه يتضح أنَّ المقصود منه ليس هو التخيير العقلي الثابت بملاك عدم البيان المستند الى البراءة، وذلك باعتبار عدم جريان البراءة العقلية في محل الكلام لأنَّ الغرض من إجرائها هو إثبات التأمين من ناحية العقاب وفي محل الكلام يقطع المكلف بعدم العقاب على كلا التقديرين لأنه مضطر لأحدهما، فلا تشمله أدلة البراءة العقلية لأنه لا يحتمل العقاب أصلاً، فالتخيير العقلي الثابت هنا بملاك عدم خلو المكلف من أحد الأمرين إما الفعل وإما الترك، وهذا هو القول الصحيح.