45/06/06
الموضوع: الأصول العملية/ أصالة التخيير / المقام الأول
تنبيه وتوضيح:
تقدم بيان رأي السيد الشهيد قده في عدم جريان البراءة الشرعية في الدواران بين محذورين، وأنَّ المانع من جريانها إثباتي، وحاصل ما ذكره هو أنَّ المنساق من أدلة البراءة الشرعية هو أنها واردة لعلاج حالة التزاحم بين الأغراض اللزومية والأغراض الترخيصية كما في الشبهات البدوية، ولا تشمل حالة التزاحم بين غرضيين لزوميين، فكأنها منصرفة عن هذا الفرض، وأنَّ هناك قصور في أدلة البراءة الشرعية عن الشمول لمحل الكلام.
والملاحظة عليه:
إنَّ ما ذكره قده مبني على دعوى أنَّ المنساق من أدلة البراءة هو أنها واردة لعلاج حالة التزاحم بين الأغراض والملاكات الإلزامية الموجودة في الأحكام الإلزامية وبين الملاكات الترخيصية الموجودة في الأحكام الترخيصية، ولكن مع افتراض عدم وجود الملاكات الترخيصية في الأحكام الإلزامية، وعدم وجود الملاكات الإلزامية في الأحكام الترخيصية، وحينئذٍ يقال إنَّ أدلة البراءة لا تشمل المقام لعدم وجود هذا التزاحم فيه، وإنما الموجود في محل الكلام هو التزاحم بين ملاكين إلزاميين، وهو قد ينتج البراءة والترخيص إلا أنه قائم على أساس تساوي الاحتمالين لا على أساس ترجيح الملاكات الترخيصية على الملاكات الإلزامية.
وأما إذا قلنا أنَّ الملاكات الترخيصية المتمثلة بمصلحة التسهيل موجودة في جميع الموارد حتى ما قُطع فيه بالإلزام فضلاً عما شُك فيه، فإذا قطعنا بوجوب شيء أو بحرمته فإنَّ ذلك لا يعني عدم وجود مصلحة التسهيل بل هي موجودة وتقتضي اطلاق العنان لأنَّ الالزام فيه تضييق على المكلف، غاية الأمر أنَّ ملاك الالزام في حالة القطع به أقوى من ملاك التسهيل، وفي مورد الشك في الالزام تضعف محركية ملاك الالزام لكونه ملاكاً احتمالياً أولاً، ومزاحَماً بملاك التسهيل ثانياً، لما عرفتَ من أنه موجود في جميع الموارد، وحينئذٍ يمكن فرض جعل البراءة إذا كانت مصلحة التسهيل أهم وتكون مشمولة لأدلة البراءة الشرعية، لأنَّ التزاحم هنا بين الملاك الالزامي وبين الملاك الترخيصي أيضاً.
بل قد يقال إنَّ جريان البراءة في المقام في المقام أولى من موارد احتمال الإلزام لأنَّ مصلحة التسهيل إذا كانت مقدمة في تلك الموارد على مصلحة الالزام المحتملة مع كونها غير مبتلاة بالمزاحمة مع مصلحة الالزام بالنقيض فكيف لا تكون مقدمة على مصلحة الالزام بالفعل المبتلاة بالمزاحمة مع مصلحة الالزام بالترك.
***
تتميم:
كان الكلام في القول الخامس القائل بتقديم جانب التحريم على جانب الوجوب لقاعدة دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة.
وأورد عليه بوجوه:
الأول: بأنه لا وجود لهذه القاعدة بشكل مطلق، ولم يدل دليل عليها لا عقلاً ولا شرعاً، والسر في ذلك هو أنَّ المنافع تختلف باختلاف الموارد فرُبَّ منفعة يكون جلبها أولى من دفع المفسدة، ومع التساوي في الأهمية لا دليل على تقديم جانب الحرمة.
الثاني: إنَّ البراءة في الشبهات البدوية التحريمية تجري بلا إشكال ولا تجب مراعاة احتمال المفسدة، مع القطع بعدم وجود المصلحة في مقابلها، فكيف يقال بلزوم مراعاة احتمال المفسدة مع وجود احتمال المصلحة في مقابلها كما في محل الكلام!
الثالث: إنَّ دعوى أنَّ الوجبات ليس فيها إلا جلب المنفعة غريبة لإمكان افتراض وجود مفسدة في ترك الواجبات ومعه لا تتم القاعدة المذكورة إذ يكون الفرض من التزاحم بين مفسدتين، غاية الأمر أنَّ المفسدة تكون في الفعل من جانب التحريم وفي الترك في جانب الوجوب، ومع تقديم جانب التحريم وإلزام المكلف بالترك سيقع في مفسدة ترك الواجب، وهذا من التزاحم بين مفسدتين.
ويلاحظ عليه:
أولاً: إنَّ التحريم - سواءً كان بمعنى الزجر عن الفعل أو بمعنى طلب الترك - ينشأ من مفسدة في الفعل، كما أنَّ الوجوب ينشأ من مصلحة في الفعل، وهذا يعني أنَّ الواجبات بشكل عام ليس فيها إلا المصلحة في الفعل فقط من دون أن يكون في تركها مفسدة، وإذ اتفق أنَّ شيئاً كان في فعله مصلحة وفي تركه مفسدة لما كان من الواجبات المحضة بل يكون فعله واجباً وتركه حراماً، فإذا تركه استحق عقابين أحدهما على ترك الواجب والآخر على فعل الحرام وهو الترك، إلا أنه فرض محض ولا وجود لمثل هذا المتعلق، وهذا يعني أنَّ الواجبات ليس فيها إلا مصلحة في الفعل وأنَّ المحرمات ليس فيها إلا مفسدة في الفعل.
وثانياً: أنَّ الوجه الأول إنما يرد لو كان المدعى تقديم جانب الحرمة في جميع موارد دوران الأمر بين المحذورين، فيقال إنَّ التقديم ليس قاعدة عامة إذ رُبَّ واجب أهم من الحرام، وأما إذا ادعي ذلك في مورد خاص فلا يتم ذلك، كما إذا احتملنا أن المفسدة في الفعل على تقدير كونه حراماً تكون أقوى من المصلحة فيه على تقدير كونه واجباً ولا يُحتمل العكس، كما إذا دار الأمر بين كون شخص ما واجب القتل أو محرم القتل فإنه قد يقال – كما في الكفاية – بتقديم جانب الحرمة لدخول المسألة في كبرى دوران الأمر بين التعيين والتخيير، باعتبار أنَّ ترك القتل يدور أمره بين أن يكون طرفاً للتخيير على تقدير عدم تقديم الحرمة، وبين أن يكون معيناً على تقدير أقوائية المفسدة، بخلاف القتل إذ لا يحتمل فيه التعيين، والعقل يلزم هنا بالتعيين أي اختيار ترك القتل، وهذا نظير شك المسافر في أنَّ مكانه هل هو من أمكنة التخيير أو لا، فصلاة القصر يدور أمرها بين أن تكون واجباً معيناً على تقدير أن لا يكون مكانه من أمكنة التخيير وبين أن تكون واجباً مخيراً على تقدير أن يكون المكان من أمكنة التخيير، فيتعين عليه الصلاة قصراً لبراءة ذمته بذلك على كل حال.