الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

45/05/26

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:الأصول العملية/أصالة التخيير/المقام الأول/

 

أصالة التخيير

تحرير محل الكلام:

مورد أصالة التخيير هو دوران الأمر بين المحذورين، حيث قيل أنَّ الأصل الجاري فيه هو التخيير، فلو فرضنا أنَّ المكلف حلف إما على فعل شيء وإما على تركه فيدور الأمر بين الوجوب والتحريم وهو معنى دوران الأمر بين محذورين، فيقع الكلام في تحديد الأصل الجاري فيه.

ولا يشمل البحث ما إذا احتملنا حكماً ثالثاً غير إلزامي، كما إذا فرضنا دوران الأمر بين الوجوب والتحريم والاباحة، والسر في ذلك أنه لا إشكال في جريان البراءة هنا باعتبار أنَّه من الشك في التكليف، إذا يشك المكلف في وجوب الشيء فيجري البراءة لنفيه، كما يشك في حرمته فيجريها كذلك، فبانضمام احتمال الاباحة لا علم إجمالي بثبوت حكم إلزامي مردد بين الوجوب والتحريم كما هو معنى دوران الأمر بين محذورين، بل قالوا أنَّ هذا أولى بجريان البراءة من الشبهة الوجوبية المحضة والشبهة التحريمية المحضة، وذلك باعتبار عدم إمكان الاحتياط في الحالة المتقدمة مع إمكانه في الشبهتين الوجوبية والتحريمية.

ثم إنَّ الوجوب والحرمة الذين يدور الأمر بينهما تارة يكونا توصليين وأخرى يُفترض كونهما تعبديين، أو أحدهما تعبدي.

ثم الواقعة المشتبهة تارة تكون شخصية غير قابلة للتكرار، أي يكون الفعل المشتبه حكمه غير قابل للتكرار إما لأخذ بعض القيود فيه كما لو فرضنا أنه حلف إما على الجلوس في مكان وزمان معين، وإما على ترك الجلوس في ذلك المكان والزمان بعينه، فهذا الفعل غير قابل للتكرار، وإما لأنَّ طبيعة الفعل نفسها غير قابلة للتكرار كالقتل، كما إذا دار الأمر بين وجوب قتل حيوان وبين حرمته فهذا الفعل لا يكون قابلاً للتكرار.

وأخرى تكون الواقعة قابلة للتكرار كما إذا فرضنا دوران أمر الجلوس في مكان معين بين الوجوب والحرمة لكن في زمان طويل، وحيث أنَّ قابلية الفعل المردد للتكرار فلا يفرق فيه بين التعبديات والتوصليات، وعليه يقع الكلام في ثلاثة مقامات:

المقام الأول ما إذا كانت الواقعة واحدة غير قابلة للتكرار مع كون الحكمين توصليين.

المقام الثاني ما إذا كانت الواقعة واحدة غير قابلة للتكرار مع كون الحكمين تعبديين أو أحدهما تعبدي.

المقام الثالث ما إذا كانت الواقعة قابلة للتكرار من دون فرق بين أن يكون الحكمان توصليين أو تعبديين أو مختلفين.

أما المقام الأول فالمكلف غير قادر على المخالفة القطعية لأنه لا يخلو من الفعل أو الترك لأنهما نقيضان، فإذا فعل فيحتمل فيه الموافقة، وإذا ترك فكذلك، فالمخالفة القطعية غير مقدورة له.

كما أنه غير قادر على الموافقة القطعية لاستحالة الجمع بين الفعل والترك، وهذا يستلزم أن تكون الموافقة الاحتمالية والمخالفة الاحتمالية قهرية أيضاً.

الأقوال في المسألة:

اختلفت الأقوال في تعيين الأصل الجاري في هذا المقام، وذُكر أنها خمسة:

الأول: جريان البراءة الشرعية والعقلية لنفي الوجوب الحرمة المحتملين، والتزم به هو السيد الخوئي قده.

الثاني: التخيير بين الفعل والترك عقلاً مع جريان أصالة الاباحة شرعاً فيهما، وهذا مختار المحقق الخراساني قده.

الثالث: التخيير العقلي بينهما من دون الالتزام بحكم ظاهري مجعول من قبل الشارع، وهذا مختار المحقق النائيني قده.

الرابع: التخيير بينهما شرعاً.

الخامس: تقديم احتمال الحرمة على احتمال الوجوب لقاعدة أنَّ دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة، بتخيل أنَّ امتثال الحرمة يدفع عنه المفسدة بينما امتثال الوجوب يجلب له المصلحة.

أما القول الأول فاستُدل له بأنه لا يوجد ما يمنع من شمول أدلة البراءة الشرعية والعقلية للمقام، أما البراءة الشرعية فباعتبار عموم أدلتها كحديث الرفع الدال على رفع كل حكم مجهول، وهو صادق في المقام، وأما البراءة العقلية فباعتبار أنَّ موضوعها عدم البيان وهو صادق على كل واحد من الحكمين.

واعترض عليه بوجوه:

الأول: أما بالنسبة الى البراءة الشرعية فبأن الحكم الظاهري لا بد له من أثر شرعي وإلا كان لغواً، ومن الواضح أنَّ جعل البراءة في المقام مما لا أثر له، لعدم خلو المكلف من الفعل أو الترك فلا يترتب على جريانها أثر.

وبعبارة أوضح: العقل يحكم بالتخيير بقطع النظر عن البراءة الشرعية، وجريان البراءة لا يرفع هذا التخيير، كما أنَّ تحقق أحد الأمرين إما الفعل أو الترك ثابت، فلا يترتب على جريان البراءة الشرعية أي أثر، فتكون لغواً.

وهذا الوجه مختص بالبراءة العقلية.

وأجاب عنه السيد الخوئي قده أولاً بالنقض بغير المقام من موارد جعل البراءة والاباحة الظاهرية، وأنَّ المكلف يدور أمره فيها بين الفعل والترك ولم يمنع ذلك من جريان البراءة.

ولوحظ عليه بأنَّ الذي يُفهم من الوجه الأول هو أنَّ اللغوية ليست من جهة عدم خلو المكلف من الفعل أو الترك وإنما من جهة حكم العقل بالترخيص والتخيير بينهما فلا أثر للبراءة الشرعية.

لكن الظاهر أنَّ هذا لا يدفع الاشكال، وذلك باعتبار أنَّ الترخيص العقلي موجود في موارد جريان البراءة التي نقض بها السيد الخوئي قده.

والصحيح في الجواب عدم اللغوية في المقام لأنَّ إجراء البراءة ليس لإثبات الترخيص والاباحة حتى يقال بأنه لغو لثبوت ذلك عقلاً، وإنما الغرض هو نفي وجوب الاحتياط بالنسبة الى أحد الاحتمالين، إذ من الممكن افتراض أنَّ الشارع يلزم بالفعل أو بالترك بلحاظ احتمال الوجوب واحتمال الحرمة، وهذا الاحتمال ينتفي بإجراء البراءة لأنه يعني أنَّ الشارع يحكم بالإباحة ظاهراً، وهذا يعني عدم وجوب الاحتياط، فالغرض من إجراء البراءة هو نفي وجوب الاحتياط الشرعي بالفعل أو الترك، ومن الواضح بأنَّ العقل لا يحكم بنفي وجوبهما.