الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

45/05/20

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/ أصالة البراءة / تنبيهات البراءة / التنبيه الرابع

كان الكلام في الحالة الثانية وفي الشك في الفرد الزائد، وذكر المحقق النائيني قده أنَّ هذا الشك لا يؤدي الى الشك في التكليف بل هو شك في الامتثال، لأنَّ الفرد الزائد ليس له دخل في التكليف وإنما في الامتثال، فلا تجري البراءة.

وبعبارة أخرى إنَّ المقدار الذي تتوقف عليه فعلية التكليف بالوضوء هو أن يوجد فرد من الماء وهو معلوم، وأما الفرد الزائد فأثره هو التوسعة في دائرة الامتثال لا غير، وعليه فلا أثر للشك فيه مصداقاً سوى الشك في تحقق الامتثال به، والقاعدة فيه هي الاشتغال.

هذا كله في الصورة الأولى وهي ما إذا كان الموضوع مأخوذاً بنحو صرف الوجود كما في مثل (توضأ بالماء).

الصورة الثانية: وهي ما إذا كان الموضوع مأخوذاً بنحو مطلق الوجود من قبيل (أكرم العالم)، وقد ذكر قده بأنَّ الشك في كون هذا عالماً هو شك في الموضوع وهو يستلزم الشك في التكليف الزائد، لأنَّ الحكم هنا مجعول على نهج القضية الحقيقية الشرطية وشرطها هو الموضوع وجزاؤها هو الحكم، فينحل الحكم بعدد الأفراد، ومع الشك في كل فرد يُشك في فعلية الحكم بالنسبة اليه فتجري فيه البراءة.

وهذه هي الحالة الرابعة التي تجري فيها البراءة وهي الشك في الموضوع المستلزم للشك في التكليف الزائد.

الى هنا تم كلامه قدس سره.

والذي يُفهم من هذا الكلام هو أنَّ الرجوع الى البراءة في الشبهات الموضوعية يكون في هذه الحالات الأربعة:

    1. ما إذا كان الشك في اجتماع شرائط التكليف بنحو الشبهة الموضوعية، كالشك في البلوغ المستلزم للشك في التكليف.

    2. ما إذا كانت الشبهة تحريمية مع فرض الدوران بين الأقل والأكثر، كما في مثال الإفاضة من عرفات قبل الغروب.

    3. ما إذا كان الشك في القدرة الشرعية.

    4. ما إذا كان الشك في الموضوع بنحو الشبهة الموضوعية مستلزماً للشك في فعلية التكليف المرتبط بذلك الفرد المشكوك.

وبملاحظة هذه الحالات نجد بأنَّ الجامع بينها هو الشك في التكليف إما الكلي أو الجزئي، أما الحالة الأولى فواضح لأنّ الشك في الشرط شك في المشروط، وأما الثانية فباعتبار أنَّ إنطباق العنوان المحرم على الفعل المأتي به شرطٌ في حرمة الفعل، والشك فيه شك في الحرمة كما مر، وأما الثالثة فلما عرفتَ من أنَّ الشك في القدرة الشرعية بنحو الشبهة الموضوعية شك في شرط التكليف أيضاً، وأما الرابعة فأوضح لأنَّ الشك فيها شك في التكليف الزائد.

بل يمكن أن يقال إنَّ الشك في التكليف في الحالات الثلاثة الأولى هو من جهة الشك في تحقق شرط التكليف بنحو الشبهة الموضوعية، أما الأولى فلأنَّ البلوغ شرط في التكليف والشك فيه يستلزم الشك في التكليف، وهكذا في الثانية فإنه جعل انطباق العنوان على الفعل شرط في التكليف فالشك في الانطباق شك في التكليف، وهكذا في الثالثة لأنَّ الشك في القدرة الشرعية شك في التكليف، لأنها شرط فيه كما هو واضح، والجامع بين هذه الحالات هو أنَّ الشك فيها ينشأ من الشك في شرط التكليف بنحو الشبهة الموضوعية.

وعليه يكون الضابط العام لجريان البراءة في الشبهة الموضوعية بنظره قده هو كون الشك مستلزماً للشك في التكليف وهذا يكون عند الشك في قيود الحكم أو في تحقق موضوعه المأخوذ قيداً في التكليف، وإلا فالمرجع هو أصالة الاشتغال، هذا ما يُفهم من كلامه أعلى الله مقامه.

الملاحظات على ما ذكره:

أولاً: في صورة أخذ الموضوع بنحو مطلق الوجود نحو (أكرم العالم) فقد ذكر أنها من موارد جريان البراءة بلحاظ الفرد الزائد، وعلل ذلك بأنَّ الحكم انحلالي، وأنَّ القضية الحقيقة تنحل الى أحكام عديدة مشروطة تكون فعلية كل حكم منها تابعة لفعلية الموضوع في الخارج، فإذا شك في تحقق الموضوع في الخارج - أي شك في أنَّ هذا عالم أو لا - كان ذلك شكاً في حكمه، ويفهم منه اختصاص جريان البراءة في مثل ذلك بما إذا كان الحكم انحلالياً في حين أنَّ البراءة تجري حتى مع فرض كون التكليف واحداً وله موضوع واحد، نعم يكون مأخوذاً على نحو الشمولية كما هو الحال في العام المجموعي كما إذا وجوب إكرام مجموع العلماء وشك في أنَّ زيداً عالم أو لا، فإنه تجري البراءة بالرغم من أنه لا يستلزم الشك في التكليف، لأنَّ فرض كون زيد عالماً لا يستلزم تكليفاً زائداً على التكليف المعلوم وإنما هو شك في سعة دائرة التحريك المولوي، وليس ذلك شكاً في التكليف، ومع ذلك تجري البراءة، فإنه على تقدير أن يكون زيد عالماً تكون هناك محركية زائدة من البداية وهو مجرى البراءة، وهذا معناه أنَّ الميزان في جريان البراءة في هذه الصورة ليس هو الانحلال بل كون الحكم شموليا ًسواءً كان متعدداً كما في (أكرم العالم) أو واحداً كما في العام المجموعي.

نعم هذه الملاحظة لا ترد إذا عممنا التكليف الذي يكون الشك في الموضوع شكاً فيه للتكليف الضمني ولم نقصره على التكليف المستقل، وذلك لأنَّ الشك في الموضوع في المثال وإن لم يستلزم الشك في التكليف المستقل لكنه يستلزم الشك في التكليف الضمني المتعلق بكل واحد من أفراد المجموع، لأنَّ التكليف الواحد المتعلق بالمجموع يستلزم تكاليف ضمنية بعدد أفراد المجموع، وعليه يكون الشك في أنَّ هذا عالم أو لا مستلزماً للشك في كونه مورداً لتكليف ضمني أو لا.

ثانياً: إنَّ ما ذكره في صورة الدوران بين الأقل والأكثر من التفصيل بين الشبهة الوجوبية وبين الشبهة التحريمية - من كون الانطباق في الأولى تحت الطلب بخلاف الثانية التي لا تكون كذلك وإنما يكون انطباق الفعل المأتي به على العنوان المنهي عنه شرط في الحرمة، فيكون الشك فيه شك في شرط الحرمة فيرجع الى الشك في الحرمة فتجري فيه البراءة - ففيه أنه لا فرق بين الشبهتين فكما أنَّ الأمر يتعلق بالفعل بقيد كونه معنوناً بذلك العنوان فكذلك الحال في النهي فإنه يتعلق بالفعل بقيد كونه معنوناً بذلك العنوان المحرم.