45/05/18
الموضوع: الأصول العملية/ أصالة البراءة / تنبيهات البراءة / التنبيه الرابع
ضابط جريان البراءة في الشبهات الموضوعية
بعد الفراغ عن جريان البراءة في الشبهات الموضوعية كما هو الحال في الشبهات الحكمية يقع الكلام في تحديد ضابط ذلك، فقد لوحظ أنَّ بعض الشبهات الموضوعية لا تجري فيها البراءة بالاتفاق، وتجري فيها قاعدة الاشتغال، وذكروا أمثلة لذلك كالشك في أنَّ هذا المائع هل هو ماء مطلق أو ماء مضاف، فهذه شبهة موضوعية ولكن لا تجري البراءة فيها لإثبات جواز الوضوء بهذا المائع، والقاعدة هنا تقتضي الاشتغال، بمعنى أنَّ الوضوء بهذا الماء المشكوك لا يجتزئ به ولا بد من إحراز أنه ماء مطلق.
وكذا لو شك في أنَّ هذا الحيوان هل هو واجد للشرائط المعتبرة في الهدي أو لا، فهذه شبهة موضوعية ولا إشكال عندهم في عدم جريان البراءة وجريان الاشتغال فيها، بمعنى أنه لا يجوز الاكتفاء به للهدي.
وهكذا الحال إذا شك المصلي أنه هل صلى الى القبلة أو الى غير القبلة فهذه شبهة موضوعية والجاري فيها هو الاشتغال، فيعيد الصلاة الى الجهة التي يُحرز القبلة فيها، ولا تجري البراءة لتصحيح صلاته، الى غير ذلك من الأمثلة التي ذكروها.
وهذا يعني أنَّ الشبهات الموضوعية على قسمين، قسم تجري فيه البراءة، وآخر لا تجري فيه، ومن هنا يقع الكلام في ضابط جريان البراءة في الشبهة الموضوعية وتمييزها عن الشبهات التي لا تجري فيها.
الضابط بنظر المحقق النائيني قده
تعرض المحقق النائيني قده الى هذا الموضوع بشيء من التفصيل في رسالته في اللباس المشكوك[1] وذكر ضوابط لجريان البراءة، فنتعرض الى ما ذكره باختصار:
ذكر قده أنَّ متعلَّق التكليف لا بد أن يكون عنواناً اختيارياً لاستحالة تعلق التكليف بغير المقدور، ثم قسَّم المتعلق الاختياري الى قسمين:
الأول: أن يكون متعلق التكليف بنفسه فعلاً اختيارياً.
الثاني: أن يكون المتعلق صادراً بتوسيط سببه التوليدي، والمقصود به هو ما يحدث عند حدوث سببه بلا توسط الإرادة من المكلف، كالإحراق المُسبَّب عن إلقاء النار على ما يقبل الاحتراق في التكوينيات، والتطهير المُسبَّب عن الغسل في الشرعيات فإنَّه يترتب على الغسل من دون تخلل إرادة المكلف.
والمهم أن يكون متعلق التكليف أمراً اختيارياً إما بنفسه وإما بتوسط عنوان يكون سبباً توليدياً لذلك الفعل، وحينئذٍ إما أن يكون هذا المتعلق مستقلاً أي ليس له تعلُّق بموضوع خارجي كالأمر بالقيام أو الكلام، وإما أن يكون له تعلُّق بموضوع خارجي كــأكرم العالم، وأعتق رقبة، وصلِّ الى القبلة، فالإكرام متعلق بالعالم، والعتق بالرقبة، والصلاة بالقبلة، فالعالم والرقبة والقبلة موضوعات للحكم والاكرام والعتق والصلاة متعلقات للحكم، ويُعبَّر عن الموضوع بمتعلق المتعلق أيضاً.
أما الأول - أي الفعل الاختياري الذي لا يتعلق بموضوع - فإنَّ فعلية التكليف فيه لا تتوقف على أي شيء سوى اجتماع شرائط التكليف، وإذا انتفت أو انتفى واحد منها لا يكون التكليف فعلياً، والشبهة الموضوعية في هذا القسم لا بد أن ترجع الى الشك في تحقق هذه الشرائط فإنَّ البلوغ وعدمه والعقل وعدمه من الشبهات الموضوعية، وفي هذا القسم تجري البراءة لأنَّ الشك في شرط التكليف شك في نفس التكليف، لقاعدة الشك في الشرط شك في المشروط، وإذا كان الشك في التكليف فتجري البراءة بلا إشكال.
وأما ما ذكره من أنَّ الشبهة الموضوعية لا تتصور في هذا القسم إلا أن ترجع الى الشك في تحقق شرائط العامة للتكليف، فلأنَّ تصوير الشبهة الموضوعية إما من جهة الشك في تحقق شرائط التكليف، وهو يعني الشك في نفس التكليف، وإما من جهة الشك في تحقق نفس المتعلَّق، وهو التكلم في المثال، لكنه غير معقول لأنَّ المتكلم إذا أراد الكلام فلا معنى لأن يشك في أنَّ الصادر منه كلام أو لا بعد تبيُّن المفهوم عنده وصدور الفعل عن إرادة، قال:
(فإن كان العنوان المتعلّق للتكليف من المقدور بلا واسطة والصادر بنفسه امتنعت الشبهة المصداقيّة فيه حال صدوره الإراديّ بعد تبيّن مفهومه، إذ يستحيل أن يشكّ من أراد شيئا عند إرادته له في هويّة ما أراده، وإنّما يعقل الشكّ في العنوان الاختياري حال صدوره إذا كان من المسبّبات التوليديّة المقدورة بتوسّط أسبابها، واشتبه السبب المحصّل له..)[2]
فينحصر تصور الشبهة الموضوعية في الفرض الأول وهو أن يكون الشك من جهة تحقق شرائط التكليف، وهو يرجع الى الشك في نفس التكليف وتجري فيه البراءة.
والحاصل: إنَّ الشك في العنوان الاختياري حال صدوره بنحو الشبهة الموضوعية غير متصور، وإنما المتصور منها هو ما ذكره.
هذه هي الحالة الأولى من الشبهة الموضوعية التي تجري فيها البراءة، وحاصلها ما إذا كانت الشبهة الموضوعية ترجع الى الشك في تحقق شرائط التكليف.
وأما الثاني - أي ما إذا كان لمتعلق التكليف موضوع - فتارة يُفرض الموضوع أمراً خارجياً متحققاً في الخارج ومفروغاً عن تحققه كــ (صلِّ الى القبلة) و (قف في عرفة)، وأخرى لا يكون كذلك بل يكون أمراً كلياً مقدر الوجود كــ (أكرم العالم) و (لا تشرب الخمر)، وفي الأولى يمكن تصور الشبهة الموضوعية لأنَّ المتعلق فيها ارتبط بموضوع خارجي فُرغ عن تحققه، وفي هذه الحالة تارة يفترض دوران الأمر بين المتباينين كما في الصلاة الى القبلة مع ترددها بين جهتين، وأخرى يدور الأمر فيها بين الأقل والأكثر كما إذا تردد الموقف في عرفات من جهة الاشتباه الخارجي بين دخول هذه البقعة فيها وبين عدم دخولها، وفي الحالة الأولى المرجع هو قاعدة الاشتغال للعلم الإجمالي بالتكليف المردد بين المتباينين.
وأما في الحالة الثانية فيقول يتجه التفصيل بين الشبهة الوجوبية والشبهة التحريمية، ففي الشبهة الوجوبية تجري أصالة الاشتعال ولا تجري البراءة، ومثاله (قف في عرفات) إذا شك المكلف في أنَّ هذه البقعة من عرفات أو ليست منها، وأما الشبهة التحريمية فتجري فيها البراءة، من قبيل حرمة الافاضة من عرفات قبل غروب يوم التاسع من ذي الحجة، وضابط هذه الحالة هو إذا كانت الشبهة الموضوعية تحريمية مع فرض الدوران بين الأقل والأكثر.
هاتان حالتان تجري فيهما البراءة.
وأما التفريق بين الشبهة الوجوبية وبين الشبهة التحريمية فذكر له وجهاً يأتي بيانه.