45/05/17
الموضوع: الأصول العملية/ أصالة البراءة / تنبيهات البراءة / التنبيه الرابع
حاصل ما تقدم هو أنَّ صحيحة عبد الله بن سنان ادُعي اختصاصها بموارد العلم الإجمالي فلا يمكن الاستدلال بها في الشبهات الموضوعية البدوية.
والجواب عنه: لو سلمنا الاختصاص لكن الرواية مطلقة تشمل الشبهات المحصورة وغير المحصورة، والحكم العقلي باستحالة جريان البراءة في موارد العلم الإجمالي يختص بموارد الشبهة المحصورة، فتدل الرواية على جريان البراءة في الشبهات غير المحصورة، وقالوا أنَّ هذا كافٍ في جريان البراءة في الشبهة الموضوعية البدوية إما بالأولوية أو بالمساواة.
وعلى أي حال إنَّ أدلة البراءة فيها ما يدل على جريان البراءة في الشبهات الموضوعية أو هو مختص بها.
وأما البراءة العقلية فقد يدعى عدم جريانها في الشبهات الموضوعية وذلك لأنَّ موضوعها هو عدم البيان، والمراد به هو الحكم المرتبط بالشارع والذي يكون بيانه من وظيفته.
والسؤال: إنَّ الحكم المذكور هل هو الحكم الكلي أو الحكم الجزئي الثابت للموضوع الخارجي؟
الجواب: إنَّ الحكم المرتبط بالشارع هو الحكم الكلي، كما إذا لم يرد بيان من الشارع في حكم لحم الأرنب، فيقبح حينئذِ عقاب من يأكله بحكم العقل، وأما الموارد التي تم فيها البيان ووصل الى المكلف فلا تجري القاعدة.
وفي الشبهات الموضوعية افتُرض وجود بيان على الحكم الكلي، وافترض وصوله الى المكلف، كما لو شك في المائع الخارجي هل هو خمر أم خل مع فرض بيان حكم الخمر ووصوله الى المكلف، أو قل الشك في الحكم الجزئي الناشئ من الشك في الموضوع الخارجي، فموضوع القاعدة غير متحقق في الشبهات الموضوعية.
والحاصل: أنَّ البيان في القاعدة يُراد به بيان الأحكام الكلية والمفروض في الشبهات الموضوعية أنَّ الشارع بيَّنها وأنها واصلة الى المكلف فلا تجري فيها القاعدة بل تجري قاعدة الاشتغال.
وأجيب عنه: بأنَّ تنجُّز التكليف لا يكفي فيه وصول الكبرى بل لا بد من وصول الصغرى ايضاً، فإذا علم المكلف بحرمة شرب الخمر ولكنه لم يحرز الصغرى وأنَّ هذا المائع خمر فلا يتنجز عليه التكليف، وإنما يتنجز عليه إذا علم بالكبرى والصغرى معاً، والسر فيه هو أنَّ الأحكام الشرعية تجعل على نهج القضية الحقيقية، موضوعها مقدر الوجود ومحمولها الحكم الشرعي، فإذا دلَّ الدليل على حرمة شرب الخمر فمرجع ذلك الى قضية شرطية مفادها: (إن كان هذا خمراً فشربه حرام) فشرطها هو تقدير تحقق الموضوع خارجاً وجزاؤها ترتب الحكم، وأما الحكم الكلي فلا يُنجِّز شيئاً على المكلف ما لم يحرز تحقق الموضوع خارجاً.
الوجه الفني في ذلك هو أنَّ التكليف الذي يتنجز بالعلم به هو الحكم الفعلي، وهو الذي تترتب عليه الآثار من استحقاق العقاب على المخالفة واستحقاق الثواب على الموافقة، وأما الحكم الاقتضائي أو الانشائي فلا تَنجُّز له، ومن لوازم القضية الشرطية أنَّ الجزاء يتعدد بعدد أفراد الموضوع المقدر الوجود، فكلما وجد مستطيع وجب عليه الحج، وكلما وجد خمر ثبتت له حرمة الشرب، فلا بد من العلم بالكبرى والصغرى حتى يتنجز التكليف، وأما إذا شككنا في تحقق الموضوع في ضمن فرد كالشك في تحقق الاستطاعة لهذا الفرد، والشك في أنَّ هذا المائع خمر فهذا يلازم الشك في ثبوت الحكم له، وهذا شك في التكليف وهو مجرى البراءة.
والحاصل: بعد فرض انحلال الحكم المجعول على نهج القضية الحقيقية يكون الحكم الفعلي الثابت للموضوع الخارجي بعد تحققه والعلم به مرتبطاً بالشارع لأنَّ مرجع القضية الحقيقية الى أنه كلماً تحقق الموضوع ثبت له الحكم فكأنَّ الشارع قال ذلك.
وبعبارة أوضح: إنَّ الاشتغال إنما يكون عند إحراز اشتغال الذمة بالتكليف وهو غير محرز في الشبهات الموضوعية وإن علم المكلف بالكبرى.
مثلاً إذا قال المولى العرفي لعبده: (كلما جاء عالم فأكرمه) فالمفهوم منه هو جعل وجوب الاكرام لهذا العالم إذا جاء وذاك العالم إذا جاء.. وهكذا، وينسب إليه هذا الحكم إليه، وإذا سُئل العبد عن سبب إكرامه لأجاب بأنَّ المولى أمرني به، وأما إذا شك العبد في تحقق الموضوع فهو شاك في وجوب إكرامه، وهو شك في التكليف فتجري فيه البراءة الثابت موضوعها وهو عدم البيان، وعليه فالبراءة العقلية - على القول بها - تجري في الشبهات الموضوعية كما تجري في الشبهات الحكمية، كما أنَّ البراءة الشرعية تجري فيها أيضاً.
ومن هنا يظهر أنه لا داعي للتوقف في جريان البراءة في الشبهات الموضوعية كما هو الحال في الشبهات الحكمية.