الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

45/05/12

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/أصالة البراءة/تنبيهات البراءة/التنبيه الثالث

 

كان الكلام في الفرض الأخير وهو ما إذا فرض أنَّ الخبر الصحيح دلَّ على نفي الاستحباب الذي دلَّ عليه الخبر الضعيف، فالظاهر أنه لا مانع من جريان القاعدة في هذا الخبر الضعيف وذلك باعتبار أنَّ تفرع العمل على بلوغ الثواب أمرٌ ممكن بالرغم من قيام الخبر الصحيح على عدم الاستحباب وذلك لأنه لا يوجب رفع احتمال الصدق في الخبر الضعيف، ومن الواضح أنَّ احتمال الصدق يعني احتمال الثواب، فيمكن الاتيان بالعمل بداعي تحصيل ذلك الثواب المحتمل، فلا موجب لخروج هذا الفرض عن أخبار (من بلغ).

نعم قد يدعى أنَّ الخبر الصحيح الدال على عدم الاستحباب يُعبدنا بعدم الاستحباب، وبناءً على مسلك جعل الطريقية نُصبح عالمين تعبداً بعدم الاستحباب، أي نصبح عالمين بكذب الخبر الضعيف الدال على الاستحباب، وقد تقدمَ عدم شمول أخبار (من بلغ) للخبر الضعيف إذا علمنا كذبه وجداناً أو تعبداً.

ويلاحظ عليه - على تقدير تسليم مبنى جعل الطريقية والعلمية – إنَّ العلم التعبدي بعدم الاستحباب لا يوجب زوال الشك تكويناً وإنما يوجب زواله تعبداً، ولا إشكال في أنَّ إمكان صدور العمل برجاء تحصيل الثواب يرتبط بالشك في الثواب تكويناً.

ومن هنا يظهر الجواب عن الوجه الأخير في فرض قيام الخبر الصحيح على الحرمة، إذ قيل فيه بأنه يوجب العلم بكذب مضمونه، فيأتي فيه هذا الجواب.

هذا تمام الكلام في التنبيه الثالث من تنبيهات البراءة المعقود لبحث أخبار (من بلغ) أو قاعدة التسامح في أدلة السُّنن.

التنبيه الرابع – من تنبيهات البراءة -: هل يختص جريان البراءة في الشبهات الحكمية أو يجري في الشبهات الموضوعية أيضاً؟

حكى الشيخ الأنصاري قده عن بعض المحققين أنَّ البراءة لا تجري في الشبهات الموضوعية، وعُلل بأنَّ الشك في الشبهات الموضوعية ليس شكاً في أصل الحكم وجعله بل في الموضوع الخارجي وفي مقام التطبيق.

لكن الظاهر هو جريانها في الشبهات الموضوعية وأنه موضوع اتفاق بينهم، بل حتى من الأخباريين الذين ينكرون جريانها في الشبهات الحكمية إما مطلقاً أو في خصوص التحريمية منها، وأما ما نُقل عن بعض المحققين من المنع من جريانها فالظاهر أنه مبني على أمرين:

الأول: دعوى أنَّ الميزان في جريان البراءة هو الشك في أصل الحكم وجعله.

الثاني: أنَّ البراءة بكلا قسميها – الشرعية والعقلية - لا تجري في الشبهات الموضوعية، لأنَّ موضوع كُلاً منهما هو الشك في الحكم.

ولذا يقع الكلام في هذين الأمرين:

والكلام فعلاً في الثاني، والذي نقوله في مقام لدفع هذا التوهم هو:

لا ينبغي الشك في جريان البراءة الشرعية في الشبهات الموضوعية وذلك لإطلاق بعض أدلتها، فلا موجب لتخصيصها بالشبهات الحكمية، وذلك من قبيل حديث الرفع، لأنَّ موضوعه هو عدم العلم، وهو يشمل بإطلاقه عدم العلم بالحكم الفعلي للموضوع الخارجي كما يشمل عدم العلم بالحكم الكلي الثابت للموضوع المقدر الوجود، بل في أدلة البراءة الشرعية ما يُدعى اختصاصه بالشبهات الموضوعية، كصحيحة عبد الله بن سنان قال:

(قال أبو عبد الله (عليه‌ السلام): كلُّ شيء يكون فيه حرام وحلال فهو لك حلال أبداً ، حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه)[1]

فإنها تشتمل على قرائن تقتضي الاختصاص بالشبهات الموضوعية، منها قوله: (تعرف الحرام منه بعينه) قالوا إنه يناسب الشبهة الموضوعية، ولو كانت الشبهة حكمية لكان المناسب التعبير بـــ (حتى تعرف حرمته) لأنّ الشك فيها يكون في حكم الشيء.

وقد يدعى اختصاص الحديث بموارد العلم الإجمالي فلا يشمل الشبهات البدوية التي هي محل الكلام سواء كان الشك في التكليف الكلي كما في الشبهات الحكمية أو في التكليف الجزئي كما في الشبهات الموضوعية.

ومنشأ هذه الدعوى هو قوله عليه السلام: فإنَّ قوله (فيه حرام وحلال..) الظاهر في وجود القسمين بالفعل في الشي، وأنَّ ذلك هو منشأ الاشتباه، وهو إنما يكون مع الاختلاط وعدم التمييز فيحصل العلم الإجمالي، وإلا فمجرد وجود القسمين مع عدم الاختلاط لا يوجب الاشتباه كما هو واضح، فيتخص الحديث بالشبهات الموضوعية.

مضافاً الى قوله (بعينه) وهو بمعنى معرفة الحرام تفصيلاً، وما يقابله هو معرفة الحرام لا بعينه وهو معنى العلم الإجمالي، فتكون الحلية مجعولة في ظرف العلم الإجمالي.

وعليه يختص الخبر بالشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي، نعم يمكن إن يُستفاد منها البراءة في موارد الشبهات البدوية ولكن بالأولوية، فإنَّ جريان البراءة مع عدم العلم بوجود الحرام أولى من جريانها مع العلم إجمالاً بوجوده، ولا أقل من المساواة.

أقول: إنَّ الحديث وإن كان يدل بالأولوية على البراءة في محل الكلام لأنَّ جريانها في موارد الشك المقرون بالعلم الإجمالي يقتضي جريانها في موارد الشك المجرد بالأولوية، إلا أنه بناءً على عدم معقولية جريان البراءة في موارد العلم الإجمالي - لأنَّ جريانها في كلا الطرفين مناف له، وجريانها في أحدهما ترجيح بلا مرجح - تسقط الدلالة المطابقية للحديث عن الحجية، ومعه تسقط الدلالة الالتزامية بالتبعية، فلا يمكن الاستدلال به على جريان البراءة في الشبهة الموضوعية.

ويلاحظ عليه - بعد تسليم الاختصاص بموارد العلم الإجمالي – إنَّ الحديث مطلق وشامل لنوعين من موارد العلم الإجمالي هما الشبهة المحصورة والشبهة غير المحصورة، وما يحكم العقل بعدم معقوليته إنما هو الأول.

 


[1] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج24، ص236، أبواب الأطعمة المحرمة، باب64، ح2، ط آل البيت.