45/05/11
الموضوع: الأصول العملية/ أصالة البراءة / تنبيهات البراءة / التنبيه الثالث
كان الكلام في الاشكال على فتوى المشهور باستحباب العمل مطلقاً بناءً على الاحتمال الثاني، مع أنَّ الاستحباب ثابت لخصوص من بلغه الثواب على العمل وهو هنا الفقيه، فما هو الوجه في الفتوى باستحباب العمل حتى لمن لم يبلغه الثواب على العمل؟
توجيه آخر لفتوى المشهور:
وهو مبني على افتراض حصول البلوغ للعامي بنفس وصول الفتوى إليه، وهذا يبتني على أنَّ البلوغ كما يشمل الإخبار عن حس يشمل الإخبار عن حدس، فيمكن توجيه فتوى المشهور باستحباب العمل مطلقاً على الاستحباب النفسي بافتراض حصول البلوغ بالنسبة الى المقلِّد بنفس وصول الإفتاء إليه، وتوضيحه:
إنَّ فتوى المجتهد باستحباب العمل تستبطن أمرين:
الأول: الفتوى بالكبرى الكلية، أي استحباب كل عمل على تقدير بلوغ الثواب عليه، وهي جائزة بلا إشكال لأنها مستندة الى أخبار (من بلغ) وهي معتبرة بلا إشكال.
الثاني: الإخبار بأنَّ العمل المعين كصلاة الليل قد ورد عليه الثواب، وبذلك يتحقق البلوغ في حق المقلِّد ويثبت الاستحباب له، ولا يختص البلوغ بالمجتهد.
ويلاحظ عليه: إنَّ المفروض في المقام أنَّ المجتهد يفتي باستحباب العمل مطلقاً، وأنَّ ما يصل الى المقلِّد هو الفتوى باستحباب العمل من دون تقييد بالبلوغ، ومن الواضح إنَّ هذا الإفتاء لا ينحل الى هذين الأمرين المذكورين لأنَّ هذه الفتوى هي ليست فتوى بالكبرى الكلية كما أنها ليست إخباراً بأنَّ هذا العمل قد ورود فيه الثواب، لأنَّ الكبرى الكلية ترجع الى قضية شرطية شرطها البلوغ وجزاؤها الاستحباب، ولا إشكال في أنَّ القضية الشرطية لا تتعرض الى شرطها إلا بنحو الافتراض والتقدير فلا يصح أن يقال أنها تستبطن تحقق شرطها والاخبار عن تحققه.
وبعبارة أخرى: هناك استحباب ثابت بلا إشكال وهو المستفاد من أخبار (من بلغ) بناءً على الاحتمال الثاني، وهناك استحباب غير ثابت وهو الذي دلَّ عليه الخبر الضعيف، فإن فُرض أنَّ المجتهد يفتي بالأول فهو أمر جائز بلا إشكال لأنه إفتاء بحجة وبدليل معتبر وهو أخبار (من بلغ)، لكنك عرفت أنَّ هذا الإفتاء الراجع الى القضية الشرطية لا يمكن أن يُحقق شرطها أي البلوغ بالنسبة الى المقلِّد، وإن فُرض أنه يفتي بالثاني فهو غير جائز لأنه إفتاء بغير دليل معتبر، لأنَّ الدليل عليه إن كان هو الخبر الضعيف فهو ليس حجة في إثبات الاستحباب لأنَّ البناء هنا على الاحتمال الثاني لا على الاحتمال الثالث، فلا يصح الاستناد اليه لإثبات الاستحباب، وإن كان المستند لهذا الاستحباب هو أخبار (من بلغ) فهي تدل على استحباب العمل بناء الاحتمال الثاني ولكن بعنوان البلوغ فيمكنه أن يفتي معلقاً على البلوغ لا مطلقاً كما هو المفروض في محل الكلام، فهذا التوجيه لا يكون تاماً.
التنبيه الخامس: قالوا أنَّ أخبار من بلغ لا تشمل الخبر الضعيف الدال على الثواب إذا كان معلوم الكذب، واستدل على ذلك بأمرين:
الأمر الأول: دعوى انصراف الأخبار عن هذا الفرض، أو قل اختصاص الأخبار بالخبر الذي يُحتمل فيه الصدق والكذب.
الأمر الثاني: ما تقدم من أنَّ موضوع أخبار (من بلغ) هو العمل المتفرع على بلوغ الثواب، ومن الواضح أنَّ ذلك غير معقول مع العلم بكذب الخبر لأنه يوجب العلم بعدم ترتب هذا الثواب على العمل، فكيف يمكن فرض صدور العمل متفرعاً على بلوغ هذا الثواب! بل لا يصدق البلوغ قبل ذلك فلا بلوغ للثواب مع القطع بكذب الخبر الناقل له.
ونفس الكلام يقال إذا دلَّ الخبر الصحيح على حرمة العمل الذي دلَّ الخبر الضعيف على استحبابه، إما للانصراف وإما لأنَّ الخبر الصحيح إذا نجَّز الحرمة وصار العمل محرماً على المكلف فلا يمكن فرض تفرع العمل على بلوغ الثواب،
وإما لأنَّ الخبر الصحيح يوجب العلم بالحرمة أو الكراهة وهو يستلزم العلم تعبداً بعدم الاستحباب، فلا يتصور الاتيان بالعمل لأجل بلوغ الثواب عليه.
وهكذا الأمر إذا دلَّ الخبر الصحيح على الكراهة، فهذه فروض ثلاثة لا تشملها أخبار (من بلغ).
وهناك فرض رابع وهو ما إذا فرض أنَّ الخبر الصحيح دلَّ على نفي استحباب بالعمل الذي دلَّ الخبر الضعيف على استحبابه، فالظاهر عدم جريان ما ذُكر فيه، وجريان أخبار (من بلغ) فيه وذلك لأنَّ تفرع العمل على بلوغ الثواب في هذا الفرض أمرٌ ممكن وذلك لأنَّ نفي الاستحباب بالخبر الصحيح لا يوجب رفع احتمال الصدق في الخبر الضعيف، ومن الواضح أنَّ احتمال الصدق يعني احتمال الثواب، فيمكن الاتيان بالعمل بداعي تحصيل ذلك الثواب فلا موجب لخروج هذا الفرض عن أخبار (من بلغ).
نعم قد يدعى بأنَّ الخبر الصحيح الدال على عدم الاستحباب يعبدنا بعدم الاستحباب، وبناءً على مسلك جعل الطريقية نصبح عالمين تعبداً بعدم الاستحباب وعدم ترتب الثواب، أي نصبح عالمين بكذب الخبر الضعيف الدال على الاستحباب، وقد تقدم عدم شمول أخبار (من بلغ) للخبر الضعيف إذا علمنا كذبه وجداناً أو تعبداً.