الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

45/05/05

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/أصالة البراءة/تنبيهات البراءة/التنبيه الثالث

 

فهرسة المباحث المتقدمة:

الكلام في الاحتمال الثاني القائل بأنَّ المستفاد من الأخبار هو استحباب العمل بعنوان البلوغ، واستدل له بالملازمة بين ترتب الثواب على عمل وبين استحباب ذلك العمل.

واشكل عليه: بأنَّ الروايات لا تُرتب الثواب على ذات العمل وإنما ترتبه على الحصة الانقيادية من العمل، وهذا لا ينفع في إثبات استحباب العمل وإنما يثبت استحباب الانقياد على تقدير ثبوت الملازمة.

وأجيب عنه: بأنّ ذلك صحيح في بعض الأخبار وهي المقيدة بكون العمل برجاء ذلك الثواب، ولا يصح في الأخبار المطلقة الخالية عن هذا القيد، فيمكن التمسك بها لإثبات استحباب العمل.

واعترض على هذا الجواب باعتراضات:

الأول: إنكار وجود المطلقات، وأنَّ الروايات الخالية عن القيد هي مقيدة في واقعها، ويدل عليه التفريع بالفاء الموجود في جميع الأخبار.

وقلنا إنّ هذا الاعتراض تام، فيندفع الجواب ويستحكم الاشكال، فلا يتم الاستدلال على الاحتمال الثاني.

الثاني: أن يقال سلَّمنا أنَّ بعض الروايات مطلقة، لكن لا بد من حمل المطلق على المقيد، فتكون جميع الأخبار مقيدة.

وقد استقربنا ذلك وقلنا إنَّ الملاك الأول من ملاكات التعارض الموجب لحمل المطلق على المقيد وهو وحدة الحكم متحقق في محل الكلام، فيستحكم الاشكال أيضاً.

ومن هنا يظهر أنَّ هذين الاعتراضين هما في الواقع اعتراضان على أصل الاستدلال بالملازمة على الاحتمال الثاني، وتحكيم للإشكال المتقدم.

الثالث: إنَّ استكشاف الاستحباب في موارد ترتب الثواب على عمل ليس قائماً على أساس ملازمة عقلية بدليل أنَّ الاستحباب لو كان ثابتاً في الواقع وكان العبد يتخيل عدم ثبوته فلا يترتب أي ثواب على عمله، كذلك العكس فإذا لم يكن أمرٌ في الواقع لكن العبد تخيل الأمر وجاء بالعمل فهو يستحق الثواب، وهذا كاشف عن عدم وجود ملازمة عقلية في محل الكلام، وإنما هذا الاستكشاف قائم على أساس وجهين:

الوجه الأول: أن يكون العمل الذي دلَّ الدليل على ترتب الثواب عليه غير مقتضٍ للثواب في حد نفسه، فإذا دلَّ دليل على ترتب الثواب عليه فنستكشف منه تعلق الأمر به.

الوجه الثاني: أن يكون الدليل الدال على ترتب الثواب على العمل في مقام الترغيب والحث على العمل، فإنه يكون كاشفاً عن محبوبية العمل الملازمة لطلبه واستحبابه.

وهذان الوجهان لاستكشاف الأمر والاستحباب من ترتيب الثواب على العمل لا يجريان في محل الكلام، أما الوجه الأول فباعتبار أنَّ العمل في محل الكلام مما يقتضي الثواب، فإنه عمل أُتي به بداعي رجاء الثواب، ومعه لا حاجة الى استكشاف الأمر.

وأما الوجه الثاني فنمنع من ظهور الدليل في محل الكلام في أن يكون في مقام الترغيب والحث على الاتيان بالعمل، بل الظاهر منه هو أنه في مقام بيان التفضل والإحسان الى العبد وأنّ المولى لا يُخيب رجاء من رجاه.

والنتيجة إنَّ الاستدلال بالملازمة على الاحتمال الثاني غير تام.

ويلاحظ على هذا الاعتراض:

أولاً: أنَّ المُستدل بهذا الدليل لا يُسلم أنَّ العمل في هذه الأخبار مما يقتضي الثواب في حد نفسه وينكر إرادة الحصة الانقيادية منه، بل يدعي أنَّ الثواب مترتب على ذات العمل وأنه ليس له إقتضاء الثواب في حد نفسه.

ثانياً: إنَّ الوجه الثاني لا يصلح أن يكون وجهاً في المقام لأنَّ الكلام في دلالة الدليل الدال على ترتب الثواب على عمل على استحبابه النفسي وأنه هل هناك ملازمة بينهما، فالمفروض كون الدليل دالاً على ترتب الثواب فقط والبحث يقع في أنه هل يدل بالملازمة على تعلق الأمر به أو لا، وأما إذا فرض كون الدليل دالاً على الترغيب والحث على العمل فلا إشكال في استكشاف الأمر والطلب منه، بل ذلك هو مدلول هذه الأخبار المطابقي، وعليه فلا معنى لأنّ يقال أنَّ أحد وجوه استكشاف الأمر في محل الكلام هو كون الدليل في مقام الترغيب والحث على العمل لأنّ ذلك بمنزلة أن يقال أنه يمكن استكشاف الأمر بالفعل من الأمر بالفعل!

ويظهر مما تقدم أنَّ هذا الاعتراض غير تام، بخلاف الاعتراضين الأول والثاني المتقدمين، وبالتالي يكون الدليل المُستدل به على الاحتمال الثاني غير تام.

النتيجة:

والصحيح أن يقال:
أولاً لا يمكننا إنكار ظهور الأخبار في أنها في مقام الترغيب والحث على العمل الذي تدل الأخبار على ترتب الثواب عليه.

وثانياً تقدم أنَّ جميع الأخبار ظاهرة في ترتب الثواب على العمل المأتي به بداعي ورجاء تحصيل الثواب، ومقتضى ذلك هو أنَّ الأخبار في مقام الحث والترغيب على الانقياد للمولى، وهذا يتلاءم مع الاحتمال الأول، أي الإرشاد الى حسن الانقياد والانبعاث عن المطلوبية الاحتمالية عقلاً واستحقاق الثواب عليها.

نعم تقدم أنَّ ظاهر الأخبار إعطاء نفس الثواب الذي بلغه كماً وكيفاً، وقلنا إنه مما لا يدركه العقل وإن أدرك استحباب أصل الثواب، وعليه فلا بد من تطعيم الاحتمال الأول بالاحتمال لرابع فيكون إعطاء نفس الثواب كماً وكيفاً الذي بلغه من باب الوعد الإلهي.

هذا كله على تقدير تسليم أنَّ الأخبار فيها ما هو مطلق وما هو مقيد، ومن هنا لا بد من النظر في الروايات التي يمكن الاستناد إليها لمعرفة ما تدل عليه، فنقول:

إنَّ الروايات التي ذكر فيها التقييد مذكورة في الباب 18 من أبواب مقدمة العبادات، وهما رويتان:

الأولى رواية المحاسن وهي الحديث 4 في الباب:

(وعن أبيه ، عن أحمد بن النضر ، عن محمّد بن مروان ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : من بلغه عن النبي (صلى الله عليه وآله) شيء من الثواب ففعل ذلك طلب قول النبي (صلى الله عليه وآله) كان له ذلك الثواب ، وإن كان النبي (صلى الله عليه وآله) لم يقله.)[1]

وسندها لا بأس به باستثناء محمد بن مروان، فإنه مشترك، وأما باقي رجال السند فهم أحمد بن محمد بن خالد البرقي صاحب كتاب (المحاسن) عن أبيه، عن أحمد بن النضر - وهو الخزاز ثقة منصوص على وثاقته

وأما محمد بن مروان الذي يروي عن الأمام الصادق في هذه الرواية فهو مشترك بين جماعة في هذه الطبقة:

    1. محمد بن مروان الذهلي، عده الشيخ من أصحاب الصادق عليه السلام، وقال: أسند عنه، مات سنة 161 وله 83 سنة، وقال في الفهرست: (له كتاب أخبرنا جماعة عن ... عنه)

    2. محمد بن مروان البصري، عده الشيخ في رجاله من أصحاب الباقر والصادق عليهما السلام.

    3. محمد بن مروان بن عثمان المدني، عده الشيخ في رجاله من أصحاب الصادق عليه السلام.

    4. محمد بن مروان الحناط، ذكره النجاشي ووثقه وذكر أنّ له كتاب وذكر طريقه إليه، ولم تتضح طبقته، لكن في طريق النجاشي إليه وقع أحمد بن محمد بن سعيد، وهو بن عقدة المعروف الثقة، وهو يروي عن محمد بن مروان بواسطتين في هذا السند.


[1] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج1، ص81، أبواب مقدمة العبادات، باب18، ح4، ط آل البيت.