الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

45/04/26

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/ أصالة البراءة / تنبيهات البراءة / التنبيه الثالث

تتمة الفوارق بين المحتملات في أخبار من بلغ:

الفرق بين الاحتمال الثاني والثالث: كان مفاد الاحتمال الثاني هو ثبوت الاستحباب للعمل بالعنوان الثانوي وهو عنوان (البلوغ)، ومفاد الاحتمال الثالث هو حجية الخبر الضعيف لإثبات الاستحباب، والفرق بينهما أنَّ الاستحباب الثابت على الاحتمال الثاني هو استحباب واقعي ثانوي ثابت لنفس العمل، بينما الثابت على الاحتمال الثالث هو الحجية وهي حكم ظاهري طريقي ثابت بملاك التحفظ على الواقع.

قد يقال: إنَّ هذا ليس فارقاً بين الاحتمالين وذلك باعتبار أنَّ الحجية وإن كانت حكماً ظاهرياً إلا أنَّ ما يثبت بها هو الاستحباب الواقعي خصوصاً على القول بمسلك جعل الحكم المماثل، فما يثبت بكل منهما هو استحباب واقعي للعمل، غاية الأمر أنه على الاحتمال الثاني ثابت بالعنوان الثانوي، بينما على الاحتمال الثالث ثابت بعوانه الأولي، فلا فرق بينهما، وعليه لا ثمرة بين الاحتمالين لأنه على كلا التقديرين يستطيع المجتهد أن يفتي باستحباب العمل الذي بلغك ثوابه إما بعنوان (البلوغ) وإما باعتبار حجية الخبر الضعيف في باب المستحبات.

وقد يقال: يمكن ذكر بعض الثمرات التي تترتب على هذين الاحتمالين، فمنها إنَّ الاستحباب الثابت على الاحتمال الثاني هو استحباب واقعي ثابت للشيء بالعنوان الثانوي، والاستحباب الثابت على الاحتمال الثالث هو استحباب واقعي للعمل بعنوانه الأولي، فإذا فرضنا أنَّ الخبر الضعيف دلَّ على استحباب شيء وفي قباله خبر صحيح ينفي استحباب ذلك العمل، فعلى الاحتمال الثاني لا إشكال في الأخذ بكِلا الخبرين فنأخذ بالخبر الصحيح ونلتزم بأنَّ العمل ليس مستحباً لكن بالعنوان الأولي، وهذا لا ينافي كون العمل نفسه مستحباً بالعنوان الثانوي، وأما على الاحتمال الثالث فيقع التعارض بينهما لأنَّ الخبر لأنَّ الضعيف يكون حجة لإثبات الاستحباب الواقعي بالعنوان الأولي والخبر الصحيح ينفي ذلك.

البحث الاثباتي

والكلام أولاً في الاحتمال الثالث وهو حجية الخبر الضعيف في المستحبات أو في مطلق الأحكام غير الإلزامية، واستشكل فيه إثباتاً بما تقدم من أنَّ دليل الحجية لا بد أن يكون ناظراً الى الواقع ومثبتاً له بإلغاء احتمال الخلاف، في حين أنَّ هذه الأخبار لا تتعرض الى ذلك بل ظاهرها تقرير بقاء هذا الاحتمال وإن لم يكن كما بلغه، وعليه تكون الأخبار أجنبية عن المسألة الأصولية وهي حجية خبر الواحد.

وهذا الاشكال منقول عن المحقق النائيني قده ، إلا أنَّ المحقق الشيح حسين الحلي قده أجاب عنه[1] بما حاصله:

إنَّ إبداء احتمال المخالفة وإن كان لا يناسب الحجية لأنَّ المناسب لها صرف نظر المكلف عن احتمال المخالفة وتحويل نظره الى البناء على المطابقة لا جعل احتمال المخالفة نصب عينيه، إلا أنه مع ذلك قد يكون المقام إبداء ذلك الاحتمال ثم سدُّه تعبداً بأن يقال له هذا الخبر الضعيف حجة كاشفة عن الواقع فلا بد من البناء على مطابقته للواقع وإن كنتَ وجداناً تحتمل المخالفة، فيُبدي المتكلم ذلك الاحتمال حتى يحكم بإلغائه.

ويلاحظ عليه:

أولاً: إنَّ الكلام ليس في إبداء احتمال المخالفة في الخبر وإنما الكلام في التصريح بجعل الحجية للخبر حتى على تقدير الخطأ وعدم مطابقته للواقع.

وثانياً: إنَّ هذا الاحتمال يخالف ظاهر بعض هذه الأخبار وهي الأخبار التي يقيد العمل فيها بما إذا جاء به برجاء قول النبي صلى الله عليه وآله أو التماس ذلك الثواب، والذي يُفهم منها عدم الحجية لأنها تساوق القطع والجزم، مثلاً إذا قامت الحجة على أنَّ هذا قاله النبي فلا مجال للإتيان به برجاء أنه قاله، أو قامت الحجة على أنَّ هذا العمل يترتب عليه الثواب فلا مجال للإتيان به التماس ذلك الثواب، وهذا إنما يصح عند افتراض عدم ثبوت الشيء لا وجداناً ولا تعبداً، فإنَّ المقام إذا كان مقام جعل الحجية فالمناسب أن يقول: (إذا بلغك ثواب على عمل فعملته كان لك ذلك الثواب) أي ثبت الاستحباب لما بلغك، ولا داعي لتقييد العمل برجاء الثواب، نعم يصح ذلك عندما لا يكون الشيء ثابتاً لا وجداناً ولا تعبداً، هذا ما منبه على عدم إمكان استفاد الاحتمال الثالث من أخبار من بلغ ، ومن هنا لا بد من استبعاده.

وأما الاحتمال الخامس ومفاده أنَّ أخبار من بلغ في مقام جعل الاحتياط الطريقي للتحفظ على الملاكات الواقعية غير الالزامية الموجودة في المستحبات، فيأمره بالاحتياط الاستحبابي، والمناقشة الاثباتية فيه:

أولا: لا يوجد في هذه الأخبار ما يمكن جعله قرينة أو إشارة الى هذا الاحتمال، فهو إحتمال ثبوتي صرف.

ثانياً: لا وجه لتقييد العمل بأن يأتي به برجاء ذلك الثواب، وذلك لوضوح أنَّ الاحتياط والتحفظ على الملاكات الواقعية للمستحبات يتحقق بمجرد الاتيان بالعمل، كما هو الحال في الشبهات التحريمية والوجوبية.


[1] أصول الفقه، الحلي، الشيخ حسين، ج7، ص265.