الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

45/04/23

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/ أصالة البراءة / تنبيهات البراءة / التنبيه الثالث

التسامح في أدلة السنن

وردت روايات بعنوان من بلغ ذكرها صاحب الوسائل وعقد لها باباً مستقلاً في الباب 18 في مقدمة العبادات[1] ، وهي المدرك لهذه القاعدة، وبعضها تام سنداً، فلا إشكال في مدرك هذه القاعدة من حيث السند، وكلها بهذا المضمون: (من بلغه ثواب على عمل فعمله رجاءً لذلك الثواب كان له ذلك وإن لم يكن كما بلغه)

والكلام يقع في مفاد هذه الأخبار، وهل تستفاد هذه القاعدة منها أو لا؟

ذكر السيد الخوئي قده في مصباح الأصول[2]
ثلاثة احتمالات ثبوتية لتحديد مفاد هذه الأخبار:

الأول: أنَّ مفادها الارشاد الى حكم العقل بحسن الانقياد والاحتياط، أي الانبعاث عن المطلوبة الاحتمالية، بمعنى أنَّ المكلف إذا بلغه خبر ضعيف فجاء بالعمل رجاء ذلك الثواب فهذا انقياد وانبعاث عن مطلوبية احتمالية.

الثاني: أن يكون مفادها جعل استحباب نفسي موضوعه بلوغ الثواب على العمل، فيكون العمل مستحباً بالعنوان الثانوي، وهو عنوان أنه بلغك ثواب عليه.

الثالث: أن يكون مفادها اسقاط شرائط الحجية في المستحبات، أو في مطلق الأحكام غير الإلزامية كما سيأتي، ونتيجة هذا الاحتمال إثبات استحباب العمل أيضاً كالثاني لكن الطريق مختلف، فالمدعى في الثاني أنَّ مفاد الأخبار هو استحباب العمل بالعنوان الثانوي من دون جعل الحجية للخبر الضعيف، والمدعى هنا أنَّ بلوغ الخبر كاف لإثبات المستحبات ولا يشترط في الخبر أن يكون خبر ثقة، فيكون الخبر الضعيف حجة في إثباتها.

وأضاف بأنَّ الاحتمال المناسب لعنوان هذه القاعدة هو الاحتمال الثالث، فإنَّ عنوانها هو (التسامح في أدلة السنن) وهو يعني إسقاط ما يعتبر في حجية الخبر كالعدالة والوثاقة في باب المستحبات، لكنه استبعده بدعوى أنَّ لسان الحجية لا يناسبه التصريح بعدم ثبوت المؤدى أي لسان (وإن كان رسول الله لم يقله)، فإنَّ الحجية لسانها هو لسان إلغاء احتمال الخلاف ولسان المطابقة للواقع، وهذا لا يناسب التصريح بحجية الطريق وإن كان مخالفاً للواقع.

وهكذا استبعد الاحتمال الثاني لعدم دلالة هذه الأخبار على عنوان (البلوغ) وأنه يكون عنواناً ثانوياً يوجب حدوث مصلحة في الفعل توجب جعل الاستحباب له.

فيتعين الاحتمال الأول وهو الارشاد الى حكم العقل باحتمال المطلوبية، فالشارع في هذه الأخبار لم يعمل مولويته وإنما تلبس بدور المرشد الى حكم العقل، والواقع لا يتغير عما كان عليه.

وبناء على هذا الكلام لا بد من إلغاء بعض الأبحاث التي ذكروها في هذه القاعدة باعتبار تفرعها على أحد الاحتمالين الثاني والثالث، فمن ذلك:

     البحث عن أنَّ مفادها هل هو استحباب ذات العمل أو هو استحبابه إذا جاء به المكلف بعنوان الرجاء والاحتياط، وهذا متفرع على البحث الثاني.

     البحث عن ظهور الثمرة بين الاحتمال الثاني والثالث، وهو متفرع على هذين الاحتمالين.

     البحث عن أنَّ هذه الأخبار هل هي معارضة بما دلَّ على إعتبار الوثاقة في حجية الخبر، وأنها تُقدم عليها إما بالأخصية لاختصاصها بالمستحبات أو بالشهرة، وهو بحث عن النسبة بينهما، وهذا البحث متفرع على الاحتمال الثالث.

     البحث عن ثبوت الاستحباب بفتوى الفقيه، أي هل يصدق البلوغ على فتوى الفقيه أم يختص بالخبر الضعيف، وهو متفرع على الاحتمال الثاني، فيقع الكلام في أنَّ عنوان البلوغ الذي هو موضوع الاستحباب هل يكفي فيه فتوى الفقيه أو لا.

وأضاف السيد الشهيد قده الى الاحتمالات الثلاثة احتمالات أخرى[3]
:

الرابع: أن يكون مفادها مجرد الوعد لمصلحة في نفس الوعد، وبعد حصوله نقطع بالوفاء لا محاله، فالشارع يعد من بلغه ثواب على عمل بإعطائه ذلك الثواب إذا عمله لرجاء ذلك الثواب من دون فرض أي تغير في نفس العمل.

الخامس: أن يكون مفادها جعل الاحتياط الاستحبابي في مورد بلوغ الثواب لأجل التحفظ على الملاكات الواقعية الراجحة الموجودة في المستحبات الواقعية في مورد التزاحم الحفظي، فإذا فرض وقوع التزاحم بين الملاكات الواقعية الإلزامية وغير الإلزامية فإنَّ الملاكات الإلزامية المحتملة تحفظ بجعل الاحتياط بينما الملاكات الاستحبابية تحفظ بجعل الاستحباب، فيقع التزاحم الحفظي بين ما تحفظ به الاحكام الإلزامية وما تحفظ به الأحكام غير الإلزامية، فالاحتياط المستفاد من هذه الأخبار هو احتياط ظاهري الغرض منه هو التحفظ على الملاكات الواقعية الرجحة الموجودة في ضمن المستحبات.

هذه هي الاحتمالات الخمسة المذكورة في محل الكلام.

الفوارق بين هذه المحتملات:

وقبل الدخول في البحث الاثباتي لتحديد ما هو الاحتمال الذي يمكن استفادته من الأخبار نتكلم عن الفوارق بين هذه المحتملات من دون استبعاد لبعضها، حتى يتضح بذلك المقصود من هذه الاحتمالات بشكل واضح.

ولذا يقال إذا استثني الاحتمال الرابع – وهو الوعد بالثواب لمصلحة في نفس الوعد – فيمكن أن نقول إنَّ باقي الاحتمالات تشترك في أنَّ الظاهر منها أنها في مقام الحث والترغيب على العمل، ولكنها تفترق في جهات أخرى، مثلاً الفرق بين الاحتمال الأول والثاني هو أنَّ هذه الأخبار على الاحتمال الأول تكون إرشاداً الى ما يدركه العقل من حسن الانقياد والاحتياط، وليس فيها إعمال مولوية وإنما هي إرشاد فقط، بخلاف سائر الاحتمالات التي تتضمن إعمال المولوية إما بجعل الاستحباب بالعنوان الثانوي، وإما بجعل الحجية للخبر الضعيف في باب المستحبات.

والفرق بين الاحتمال الثاني والثالث هو أنَّ الثابت على الثاني هو استحباب واقعي ثانوي نفسي لعنوان (البلوغ) في حين أنَّ الثابت على الاحتمال الثالث هو حجية الخبر الضعيف في المستحبات، وهو حكم ظاهري طريقي مجعول بملاك التحفظ على الواقع.


[1] الوسائل ج1 ص80، باب استحباب الاتيان بكل عمل مشروع روي له ثواب عنهم (عليهم السلام).
[2] مصباح الأصول( طبع موسسة إحياء آثار السيد الخوئي)، الخوئي، السيد أبوالقاسم، ج2، ص368.
[3] بحوث في علم الأصول، الهاشمي الشاهرودي، السيد محمود، ج5، ص121.