الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

45/04/22

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/ أصالة البراءة / تنبيهات البراءة / التنبيه الثاني

المقام الثاني: في استحباب الاحتياط في خصوص العبادات

وإنما أفردوا للعبادات بحث بعد البحث عن استحباب الاحتياط بوجه عام لخصوصية فيها، والكلام فيها يقع بعد الفراغ عن حسن الاحتياط عقلاً واستحبابه شرعاً، والكلام في العبادات يقع في كيفية تصوير الاحتياط فيها، وذلك باعتبار أنَّ تصويره في التوصليات لا يواجه مشكلة من جهة قصد التقرب، لأنَّ المطلوب فيها تحقيق الواجب على أي وجه سواءً كان ذلك بقصد قُربي أو لا، فإذا شك المكلف في وجوب الانفاق على الأخ مثلاً فالاحتياط يتحقق بالإنفاق عليه ولو من دون قصد التقرب، ولأي داع آخر، وأما في العبادات فالمشكلة تكمن في أنَّ المعتبر فيها قصد إمتثال أمرها ويتوقف على ذلك كونها عبادة وكذا الامتثال، ومن المعلوم أنَّ هذا القصد لا يمكن مع الشك وعدم العلم بتعلق الأمر بهذه العبادة التي يريد أن يأتي بها من باب الاحتياط كما هو المفروض في الشبهات التي هي محل الكلام، فإما أن يأتي بها لا بقصد امتثال أمرها فلا تكون عبادة ولا يكون محتاطاً، وإما أن يأتي بها مع قصد امتثال أمرها فيكون مشرعاً، وهو حرام ومبطل للعبادة.

وأجيب عنه: بأنّ الكلام المتقدم مبني على دعوى أنَّ عبادية العبادة متوقفة على قصد إمتثال أمرها الجزمي، وأما إذا أنكرنا ذلك وقلنا إنه يكفي في عبادية العبادة أن يأتي بها بقصد امتثال أمرها الاحتمالي فلا موقع لهذا الاشكال.

وبعبارة أخرى: المعتبر في العبادة أن يأتي بها المكلف مضافة الى المولى سبحانه، ولا إشكال في تحقق هذه الإضافة بقصد إمتثال الأمر الاحتمالي كما تتحقق بقصد امتثال الأمر الجزمي، بل ذكروا أنَّ الاتيان بالفعل لاحتمال تعلق الأمر به من أرقى أنواع الانقياد والطاعة، فيمكن دفع هذه الشبهة بهذا الوجه.

وهناك كلام تعرض له الشيخ الأنصاري قده وهو أنَّ الامتثال الاحتمالي هل يقع في عرض الامتثال الجزمي أم هو في طوله، بمعنى أنَّ المكلف المتمكن من الامتثال الجزمي هل يمكنه أن يمتثل امتثالاً احتمالياً أم لا يمكنه ذلك إلا مع العجز عن الامتثال الجزمي؟ فإن قلنا بالأول فهو يعني أنه واقع في عرضه، وإن قلنا بالثاني كان واقعاً في طوله.

وذكر هناك أنَّ الصحيح هو الأول، إذ لا فرق بينهما من ناحية عبادية العبادة وتحقق قصد القربة المعتبر فيها.

ثم إنه لا يُفرق في تحقق عبادية العبادة بقصد إمتثال أمرها الاحتمالي بين أن يكون الفرق بين العباديات والتوصيلات من ناحية الغرض، بمعنى أنَّ الغرض في التوصيليات يحصل بمجرد الاتيان بالفعل من دون قصد الأمر، في حين أنه في العباديات لا يتحقق الغرض من العبادة بمجرد الاتيان بالفعل مطلقاً بل لا بد من الاتيان به بنحو قُربي.

أو يقال أنَّ الفرق بينهما في متعلق الأمر إما بأن يقال إنّ قصد إمتثال الأمر يؤخذ في متعلق الأمر في العبادات ولا يؤخذ في متعلق الأمر في التوصليات، أو يقال بافتراض تعلق أمر آخر يسمى بمتمم الجعل، فالأمر الأول يتعلق بذات الفعل والثاني يتعلق بإتيانه بداعي أمره الأول، وبهذا تخلصوا من إشكال أخذ قصد القربة في متعلق الأمر.

أقول: لا يُفرق في تحقق عبادية العبادة بقصد إمتثال أمرها الاحتمالي بين أن نقول أنَّ الفرق بين العباديات والتوصليات هو قائم في الغرض أو نقول هو قائم في متعلق الأمر إما بالنحو الأول على القول بإمكانه، أو بالنحو الثاني على تقدير عدم إمكان الأول، فعلى جميع هذه التقادير يصح الاتيان بالعبادة التي لا نعلم تعلق الأمر بها بقصد إمتثال أمرها الاحتمالي.

نعم إذا اشترطنا في عبادية العبادة قصد الأمر الجزمي بالمتعلق بالعبادة فحينئذٍ يتم الاشكال، لأنه لا جزم بالأمر مع الشك، فلا يمكن حينئذٍ الاحتياط في العبادات، لأنَّ الاتيان بها من دون قصد الأمر الجزمي لا يحقق العبادة والاتيان بها مع قصد الامر الجزمي تشريع وهو محرم ومبطل للصلاة، لكنك عرفت أنه يكفي في عبادية العبادة قصد إمتثال الأمر الاحتمالي.

ثم ذكروا أنه حتى لو قلنا باشتراط قصد الأمر الجزمي فيمكن الاحتياط في العبادات من جهة قصد الأمر الجزمي بالاحتياط، لأنه في واقعه أمر بالفعل بعنوان الاحتياط، فلا حاجة الى قصد الأمر الاحتمالي.

ثم وقع الكلام في هذا الأمر المطروح وهل يلزم منه محذور أو لا، وذهب بعضهم الى الأول وأنه يلزم منه الدور باعتبار أنَّ الأمر بالاحتياط موقوف الاحتياط توقف كل عارض على معروضه، والاحتياط موقوف على الأمر به، وذلك لتصحيح الاحتياط عن طريق الأمر بالاحتياط.

ولا حاجة الى الدخول في هذه الأبحاث بعد أن كان مبنى هذا الكلام على اشتراط قصد الأمر الجزمي في العبادية، ولا حاجة لذلك بعد الاكتفاء في عبادية العبادة بقصد أمرها الاحتمالي.

الى هنا يتم التم التنبيه الثاني من تنبهات البراءة.

التنبيه الثالث: في قاعدة التسامح في أدلة السنن

ومدرك هذه القاعدة أخبار يُعبر عنها بأخبار من بلغ، ومضمونها هو: من بلغه عن رسول الله ثواب على عمل فعمله رجاء ذلك الثواب كان له ذلك وإن كان رسول الله لم يقله، وإنما عُبر عن هذه القاعدة بذلك لوجود رأي في هذه الأخبار يقول إنَّ الخبر وإن كان ضعيفاً لكنه يكون حجة في الأحكام غير الإلزامية ويمكن التعويل عليه، كما هو الحال في الخبر الصحيح في إثبات الحكم الالزامي، هذا هو معنى التسامح في أدلة الأحكام غير الإلزامية.

ومن هنا يظهر أنَّ القاعدة ليس هنا موضع ذكرها وإنما موضعها هو بحث حجية خبر الواحد، فيُفصل هناك في الخبر بين ما إذا أردنا منه إثبات الأحكام الالزامية فيشترط أن يكون الراوي عادلاً وثقة، وبين ما إذا أردنا اثبات حكم غير إلزامي فلا نشترط فيه ذلك.

ولكن هناك وجهة نظر أخرى تقول إنَّ هذه القاعدة من توابع البراءة، وتحديداً من توابع التنبيه السابق الذي تكلمنا فيه عن حسن الاحتياط عقلاً واستحبابه شرعاً، وهذه التبعية باعتبار أنَّ البحث عن إمكان الاحتياط في التنبيه السابق في العبادات وافترض فيه عدم احراز تعلق الأمر بها، فوقع الاشكال في إمكان وقوع الفعل عبادة مع عدم إمكان قصد امتثال أمره، وحينئذٍ يجاب بما تقدم وأنه لا يشترط في عبادية العبادة قصد إمتثال أمرها الجزمي بل يكفي قصد امتثال أمرها الاحتمالي، أو يقال بكفاية قصد امتثال الأمر بالاحتياط، وأما في المقام فلا مجال لهذا البحث لإحراز الأمر الاستحبابي بالعبادة بناءً على دلالة أخبار من بلغ على استحباب العمل الذي بلغك عليه ثواب، لأنَّ الفعل سيكون مستحباً فيمكن أن يأتي به المكلف بقصد إمتثال أمره الجزمي.