الموضوع: الأصول العملية/ أصالة البراءة / تنبيهات البراءة / التنبيه الثاني
كان الكلام في الصغرى، والمقصود بها تطبيق الكبرى في محل الكلام لإثبات أنَّ الحكم العقلي بحسن الاحتياط هو من قبيل حكمه بحسن الطاعة وقبح المعصية في عدم إمكان استكشاف الحكم الشرعي منه، أي من القسم الثاني وهو الأحكام الواقعة في سلسلة معلولات الأحكام الشرعية.
ويلاحظ عليها بملاحظتين:
الملاحظة الأولى: أنَّ حكم العقل بحسن الاحتياط ليس من قبيل حكمه بحسن الطاعة وقبح المعصية إذ لا يلزم من استكشاف الحكم الشرعي منه لا اللغوية ولا التسلسل، أما عدم لزوم اللغوية فلعدم افتراض وجود داعوية شرعية في مرتبة سابقة حتى يكون وجود داعوية شرعية مستكشفة من الحكم العقلي لغواً، بخلاف حكمه بحسن الطاعة وقبح المعصية فإنه فرض فيه وجود داعوية شرعية في مرتبة سابقة.
وأما عدم لزوم التسلسل فلأنَّ الحكم الشرعي باستحباب الاحتياط المستكشف من حكم العقل بحسنه مما لا يترتب عليه حكم عقلي بلزوم الاحتياط حتى يدعى لزوم التسلسل، لأنَّ العقل لا يستقل بلزوم الاحتياط في هذه الموارد - أي الشبهات البدوية -، نعم يترتب عليه حكم العقل بحسن إطاعة الأمر الشرعي باستحباب الاحتياطـ، وهذا حكم عقلي ولكنه ليس حكماً بلزوم الاحتياط وإنما حكمٌ بحسن إطاعة الاستحباب الشرعي.
والجواب عنه على فرض تمامية ما ذُكر ولكن هذا الحكم العقلي بحسن إطاعة الاستحباب الشرعي ثابت بملاك إطاعة أوامر المولى وهو غير الحكم العقلي الأول الثابت بملاك الاحتياط، فإذا فرض أنَّ استكشاف حكم شرعي من حكم العقل بملاك الاطاعة يلزم منه التسلسل فهذا لا يعني أنَّ استكشاف حكم شرعي من الحكم العقلي الثابت بملاك الاحتياط يلزم منه التسلسل أيضاً.
والخلاصة: إنَّ حكم العقل بحسن الاحتياط يختلف عن حكم العقل بحسن الطاعة وقبح المعصية، فإنَّ الثاني يلزم منه التسلسل واللغوية بينما لا يلزم ذلك من الأول.
الملاحظة الثانية: إنَّ حكم العقل بحسن الاحتياط كالخارج تخصصاً من مسألة الملازمة، أي ليس صغرى لهذه الملازمة، وذلك باعتبار أنَّ كون الحكم العقلي مورداً لهذه الكبرى يتطلب أن يكون الحكم الشرعي الذي يُراد استكشاف منه على أساس الملازمة كما في القسم الأول، أو يراد نفي استكشافه كما في القسم الثاني يُشترط أن يكون هذا الحكم الشرعي من سنخ الحكم العقلي، كما هو الحال في الحكم الشرعي المستكشف من حسن العدل وهو وجوبه شرعاً، وكذا المستكشف من قبح الظلم وهو حرمته شرعاً، فهذا يكون مورداً لهذه الكبرى، وأما محل الكلام - هو حكم العقل بحسن الاحتياط الذي يُراد استكشاف الحكم الشرعي باستحباب الاحتياط منه - فليس من سنخ الحكم العقلي بحسن الاحتياط، وذلك لأنَّ العقل إنما يحكم بحسن الاحتياط إذا جيء به على نحو قُربي وبقصد إمتثال الأمر لأنه يرى أنَّ كل تقرب للمولى فهو حسن، وإلا فلا يحكم بحسنه، كما لو فرضنا أنه جاء به لغرض آخر كالتحرز من الضرر الذي يحتمل حرمته أو ترك ما يحتمل وجوبه، وأما الحكم الشرعي باستحباب الاحتياط فهو على تقديره لم يؤخذ فيه قصد التقرب لأنَّ الاحتياط يتحقق به احراز الواقع المحتمل من دون فرق بين أن يأتي به بقصد قربي أو لا، وعليه فالحكم الشرعي في المقام ليس من سنخ الحكم العقلي حتى يكون مورداً للكبرى.
والحاصل أنَّ الاحتياط وإن كان عبارة عن التحرز عن المخالفة بترك ما يحتمل حرمته وفعل ما يحتمل وجوبه ومعنى ذلك أنه يتحقق بمجرد الترك في الشبهة التحريمية وبمجرد الفعل في الشبهة الوجوبية، ولا يتوقف ذلك على قصد القربة، ولو ترك لا بقصد القربة، لكن هل يحكم العقل بحسن الاحتياط بهذا المعنى أو إنه إنما يحكم بحسنه إذا قصد به التقرب وبداعي احتمال الأمر؟ وأما إذا لم يكن كذلك كما إذا ترك ما يحتمل حرمته وفعل ما يحتمل وجوبه غافلاً أو رياءً أو بداعي الحصول جائزة مثلاً فهو مما لا يدرك العقل حسنه، والايراد الثاني مبني على الاحتمال الثاني، فيثبت أنَّ الحكم الشرعي باستحباب الاحتياط الذي يراد استكشافه من الحكم العقلي بحسنه ليس من جنس الحكم العقلي المذكور فلا يقع صغرى لهذه الكبرى، حتى يقال أنَّ الحكم العقلي إن كان من القسم الأول فيمكن استكشاف الحكم الشرعي منه، وإن كان من القسم الثاني فلا يستكشف منه الحكم الشرعي للزوم أحد المحذورين المتقدمين أو كليهما.
إذن لا يصح القول بأنَّ حكم العقل بحسن الاحتياط هو من قبيل حكم العقل بحسن الطاعة وقبح المعصية فلا يستكشف منه الحكم الشرعي.
وعليه فعلى تقدير تسليم الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع فلا محذور من صيرورة الحكم العقلي بحسن الاحتياط منشأً لاستحبابه شرعاً حتى لو سلّمنا الكبرى المذكورة.
ومنه يظهر أنَّ المناقشة في الطريق الثاني لإثبات الاستحباب الشرعي هي إنكار الملازمة كما تقدم، نعم يبقى الطريق الأول - وهو استكشافه من الأخبار - والظاهر أنه خالٍ من الاشكال، لأنه لا محذور في افتراض الاستحباب الشرعي للاحتياط، فيمكن حمل أخبار الاحتياط عليه بعد تعذر حملها على الوجوب، بل بعضها ظاهر فيه كما أشرنا إلى ذلك.