45/04/20
الموضوع: الأصول العملية/ أصالة البراءة / تنبيهات البراءة / التنبيه الثاني
كان الكلام في كيفية استفادة استحباب الاحتياط شرعاً، وقلنا له طريقان، الأول أن يُستفاد من أدلة الاحتياط، الثاني أن يستفاد من حكم العقل بحسنه بناءً على الملازمة بين ما حكم به العقل وما حكم به الشرع، فهل هذا الطريق لاستفادة استحباب الاحتياط شرعاً تام أو لا؟
وتقدم الاشكال فيه بأنَّ الملازمة إنما تكون ثابتة في الأحكام العقلية الثابتة بقطع النظر عن الأحكام الشرعية، بمعنى أن لا يفترض في ثبوت الحكم العقلي وجود حكم شرعي في رتبة سابقة، كما في حكم العقل بحسن العدل وقبح الظلم، فهنا تكون الملازمة ثابتة، فيمكن استفادة حرمة الظلم من حكم العقل بقبحه واستفادة وجوب العدل من حكم العقل بحسنه، وأما إذا فرضنا أنَّ الأحكام العقلية كانت ثابتة في سلسلة معلولات الحكم الشرعي، أي فرض فيها وجود الحكم شرعي في مرتبة سابقة من قبيل حكم العقل بوجوب إطاعة أوامر المولى فهذه الأحكام العقلية لا تثبت فيها الملازمة، بمعنى أنَّ الحكم العقلي في مرحلة امتثال الأحكام الشرعية لا يلزم منه وجود حكم شرعي على طبقه وإلا لزم التسلسل، بينما لا يلزم ذلك في القسم الأول من الأحكام العقلية.
وهذا ما طبق على محل الكلام فقيل إنَّ حكم العقل بحسن الاحتياط واقع في سلسلة معلولات الأحكام الشرعية لأنه فرض فيه وجود حكم شرعي في مرتبة سابقة ويحتاط العقل بلحاظه فلا تثبت فيه الملازمة.
واستشكل في هذا الكلام كبروياً وصغروياً
أما الكبرى - وهي دعوى أنَّ الحسن والقبح العقليين إذا تعلقا بشيء بقطع النظر عن الحكم الشرعي أمكن أن يكون منشأً للحكم الشرعي وتكون الملازمة ثابتة، وأما إذا تعلق بشيء في طول الحكم لشرعي فيستحيل فيه استكشاف الحكم الشرعي - فقد تقدم التعرض لها في مباحث التجرّي من مباحث القطع، وهناك ذكروا بأنَّ هذه الدعوى تامة، وذلك باعتبار أنَّ الحكم العقلي الثابت في طول الحكم الشرعي لا يمكن أن نستكشف منه الحكم الشرعي حتى مع تسليم الملازمة للزوم اللغوية، والوجه فيها هو إنَّ المفروض في المقام وجود تكليف شرعي ولنفترض أنه وجوب الصلاة، وهناك حكم عقلي مترتب عليه وهو حكمه بحسن إطاعة هذا التكليف وقبح معصيته، وهذا التكليف الشرعي من شأنه أن يُحدث الداعي في نفس المكلف نحو الامتثال، ولكن هذا التحرك نحو الامتثال بضميمة حكم العقل بحسن الطاعة وقبح المعصية وهو المحرك نحو الامتثال حقيقة، وليس هو التكليف الشرعي بقطع النظر عن الحكم العقلي، فثبت أنَّ الداعي للتحرك يحدث عند الانسان نتيجة التكليف الشرعي ولكن بضميمة حكم العقل بحسن الطاعة وقبح المعصية، ومن دونه لا يكون التكليف الشرعي لوحده محركاً للعبد، فإذا فرض بمقتضى الملازمة جعل حكم شرعي مولوي آخر مفاده وجوب إطاعة التكليف بالصلاة فهل تترتب داعوية أخرى على هذا التكليف الشرعي الجديد غير ما فرض سابقاً أو لا ؟
فإن قلنا لا تترتب عليه داعوية جديدة كان لغواً، وإن قلنا هناك داعوية أخرى غير ما ثبت سابقة فلا يكون كذلك، والمُستدل يدعي الأول، لأنَّ داعوية هذا التكليف بوجوب اطاعة التكليف بوجوب الصلاة إنما هي بتوسط حكم العقل بحسن الطاعة وقبح المعصية، وهي نفس ما فرض سابقاً وليس شيئاً آخر، لأنَّ ما يدعى حصوله وعدم لغويته هو تكليف شرعي مولوي مع حكم العقل بحسن إطاعته، وهذا موجود بنفسه قبل هذا الجعل، لأنَّ الشارع دعاه الى الصلاة بحسب الفرض والعقل حكم بحسن إطاعته، وما يدعى حصوله هو أيضاً دعوة الى الفعل بعنوان إطاعة التكليف به مع حكم عقلي بحسن اطاعته فيكون لغواً، وهذا بخلاف الحكم العقلي الثابت بقطع النظر عن الحكم الشرعي فإنه يمكن استكشاف الحكم الشرعي منه بناءً على الملازمة ولا يكون لغواً لأنَّ الحكم الشرعي بوجوب العدل أو حرمة الظلم يحقق شيئاً لم يفرض حصوله قبله وهو الداعوية الشرعية، وهي غير داعوية العقل للترك.
والظاهر أنَّ هذا التفصيل في الكبرى صحيح، وأنَّ الملازمة العقلية على تقدير تسليمها تثبت في القسم الأول دون القسم الثاني.
وأما الصغرى - والمقصود بها هو تطبيق الكبرى المتقدمة في محل الكلام، لإثبات أنَّ الحكم العقلي بحسن الاحتياط من قبيل حكمه بلزوم الطاعة وقبح المعصية فلا يمكن استكشاف الحكم الشرعي باستحباب الاحتياط منه - فغير تامة بمعنى أنَّ حكم العقل بحسن الاحتياط ليس من قبيل حكمه بحسن الطاعة وقبح المعصية، فيمكن أن نستكشف منه الحكم الشرعي وبذلك يتم رد المناقشة، وذلك لأنَّ الحكم العقلي الذي لا يكون مورداً للملازمة إنما هو حكمه بحسن الطاعة وقبح المعصية باعتبار لزوم التسلسل أو لزوم اللغوية، وأما حكم العقل بحسن الاحتياط فلا محذور في كونه مورداً للملازمة وذلك لأنه لا يلزم منه كلا المحذورين السابقين، أما عدم لزوم محذور اللغوية فيقال في بيانه أنه لم يفرض في محل الكلام وجود داعوية شرعية مولوية للاحتياط حتى تكون الداعوية الشرعية المستكشفة من الحكم العقلي لغواً.