الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

45/04/19

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/ أصالة البراءة / تنبيهات البراءة / التنبيه الثاني

استحباب الاحتياط شرعاً

الكلام تارة يقع في استحباب الاحتياط في الشبهات البدوية بشكل عام ، وأخرى في استحبابه في خصوص العبادات، والكلام فعلاً عن الأول ، والكلام تارة في إمكانه وأخرى في كيفية استفادته من الأدلة، وتفصيل ذلك:

أما البحث الأول فقد يقال بعدم إمكانه للزوم اللغوية، وبيانها:

إنَّ الغرض من جعل الأحكام هو خلق الداعي في نفس المكلف للتحرك نحو الامتثال ، فإن فرض وجود هذا الداعي فجعل الحكم يكون لغواً ولا فائدة فيه، وتطبيقه في محل الكلام باعتبار أننا فرغنا عن حسن الاحتياط عقلاً وهذا كاف في خلق الداعي في نفس المكلف نحو الامتثال والاحتياط ، فجعل الشارع الاستحباب غرض جعل الداعي يكون لغواً ومحالاً.

والجواب عنه: إنَّ الاحتياط كحكم ظاهري إنما يجعل بملاك طريقي لغرض إدراك الواقع المحتمل والتحفظ على ملاكاته، سواءً كان ذلك على نحو الوجوب أو على نحو الاستحباب ، فإذا فرضنا أنَّ الواقع المحتمل وملاكاته اللزومية بنظر المولى لم تصل الى درجة من الأهمية بالنسبة الى الأحكام الترخيصية وملاكاتها بحيث لا يرضى بتفويته حتى يجعل وجوب الاحتياط بل هو بنظره واصل الى درجة من الأهمية يناسب استحباب الاحتياط ، أي أنه يرضى بتفويته فلا مانع في هذه الحالة من جعل الاستحباب ولا تلزم اللغوية لأنَّ الداعي الى الاحتياط وإن كان موجوداً لحكم العقل بحسنه إلا أنَّ ذلك لا يعني لغوية جعل داعي آخر من قبل الشارع للاحتياط، وهذا ما يرفع اللغوية.

بل يكفي في عدم لغويته كونه محركاً بالفعل بالنسبة الى مكلف لا يتحرك لمجرد الداعي العقلي ويتحرك إذا انضم إليه الداعي الشرعي ، خصوصاً وأنَّ هذا الاستحباب يُمكِّن المكلف من كسب الثواب بقصده عند الامتثال.

وأما البحث الثاني في كيفية استفادته وإثباته من الأدلة بعد فرض إمكانه فهناك طريقان لإثبات استحباب الاحتياط شرعاً:

الطريق الأول: استفادته من أدلة الاحتياط المتقدمة، إما باعتبار أنها منصرفة عن الوجوب - وإن كان ذلك هو ظهورها الأولي - فتُحمل على الاستحباب، وإما بدعوى أنَّ بعض هذه الأدلة يدل على الاستحباب مباشرة ومن دون أن يكون له ظهور في الوجوب، والجامع لهما هو استفادة الاستحباب الشرعي من أدلة الاحتياط المتقدمة.

الطريق الثاني: استفادته من حكم العقل بحسن الاحتياط بناءً على الملازمة بين ما يحكم به العقل وما يحكم به الشرع، كما أنَّ حكم العقل بوجوب الاحتياط في بعض الموارد يكون ملازماً لحكم الشارع بوجوب الاحتياط.

أما الطريق الأول فاستُشكل فيه باحتمال أن تكون أخبار الاحتياط واردة للإرشاد الى ما يستقل به العقل من حسن الاحتياط فلا يمكن استفادة الاستحباب الشرعي المولوي منها لأنَّ الأدلة الارشادية لا يستفاد منها حكم مولوي.

وأجيب عنه: بأنَّ مجرد احتمال الارشادية لا يمنع من استفادة استحباب الاحتياط لأنَّ الأصل في ما يصدر عن الشارع هو المولوية ولا نرفع اليد عنه إلا بقرينة تدل على الارشاد، وهذه القرينة وإن كانت موجودة في بعض الأدلة ولكن بعضها خالٍ عنها، من قبيل (أخوك دينك فاحتط لدينك) ، فاذا قلنا أنَّ هذه الأدلة لا ظهور لها في وجوب الاحتياط فنلتزم بدلالتها على الاستحباب.

قد يقال: إنَّ القرينة على الارشاد موجودة دائماً وهي نفس حكم العقل بحسن الاحتياط، ومعه لا يمكن استفادة الاستحباب الشرعي المولوي.

وجوابه: إنَّ هذه الدعوى ترجع الى دعوى لزوم اللغوية من جعل الاستحباب الشرعي المولوي في مورد حكم العقل بحسن الاحتياط، وقد تقدم ما فيه، وعليه لا يمكن أن يقال أنَّ أدلة الاحتياط كلها ارشاد الى حكم العقل بحسن الاحتياط، نعم بعضها كذلك ولكنه لقرينة داخلية تقتضي حملها على الارشاد، وأما غيرها فتحمل على المولوية كما هو مقتضى القاعدة في بيانات الشارع.

وأما الطريق الثاني فقد تقدم الكلام عنه مفصلاً في مبحث التجري من مباحث القطع، فقد تعرضنا هناك الى هذه الملازمة وتقدم إنكارها ، كما لا ملازمة بين ما يحكم به الشرع وما يحكم به العقل ، إذ لا محذور في افتراض اكتفاء الشارع بالإدراك العقلي للحسن والقبح لعدم وجود داعٍ للتصدي الى جعل حكم شرعي مولوي ، كما إذا كان الشارع لا يهتم بفعل الحسن وترك القبيح أزيد مما يتحقق بنفس الحكم العقلي وما يقتضيه من تحرك ، ففي مثل هذه الحالة لا موجب لجعل حكم مولوي موافق للحكم العقلي ويكتفي الشارع حينئذٍ بالإرشاد إليه ، فلا ملازمة بين ما يحكم به العقل وما يحكم به الشرع.

كما يمكن افتراض أنَّ مورد الحكم العقلي يهتم به الشارع اهتماماً يزيد على ما يقتضيه الحكم العقلي من تحرك بحيث يتعلق غرض الشارع بحفظ الفعل بدرجة أكبر مما يحفظ به بتوسط الحكم العقلي وحينئذٍ يكون هناك داعٍ لجعل حكم شرعي مولوي في مورد حكم العقل، وهذا كله يعني عدم الملازمة.

بحث آخر تقدير القول بالملازمة

ثم ذكروا بحثاً آخر بناءً على الملازمة بين ما يحكم به العقل وما يحكم به الشرع فهل يتم الطريق السابق أم لا؟

استشكل المحقق النائيني قده من استكشاف الاستحباب المولوي الشرعي من الحكم العقلي بحسن الاحتياط بأنَّ هذا المورد ليس من موارد الملازمة ، وذلك لأنَّ موردها هو ما إذا كان الحكم العقلي واقعاً في سلسلة علل الأحكام الشرعية من قبيل حسن العدل وقبح الظلم ، وأما الأحكام العقلية الواقعة في سلسلة معلولات الأحكام الشرعية كحكم العقل بوجوب الطاعة وقبح المعصية فلا تثبت فيها الملازمة وإلا لزم التسلسل ، فإن كان هناك أمر بالصلاة وحكم العقل بحسن طاعته فعلى ثبوت الملازمة يلزم أن يحكم الشارع حكماً مولوياً بوجوب إطاعة ذلك الأمر ، وهذا حكم شرعي آخر فيأتي فيه حكم العقل بحسن إطاعته ، وعلى الملازمة يثبت حكم مولوي ثالث... وهكذا يتسلسل، وأما في القسم الأول فلا يلزم فيه ذلك لأن الأحكام العقلية ثابتة بقطع النظر عن الأحكام الشرعية ، فحكم العقل بحسن العدل الذي يستلزم حكم الشارع بوجوبه لا يزمه منه حكم عقلي آخر ، فلا يلزم التسلسل ، وقالوا أنَّ ما نحن فيه هو من قبيل الأحكام العقلية الواقعة في سلسلة معلولات الأحكام الشرعية فلا تثبت فيها الملازمة حتى على القول بها، وذلك لأنَّ الحكم العقلي هنا هو حسن الاحتياط فهو يفترض وجود تكاليف في مرحلة سابقة ويحكم بحسن الاحتياط تجاهها، أو قل هو حكم عقلي في مرحلة امتثال الأحكام الشرعية ، والملازمة هنا لا تكون ثابتة.