45/04/16
الموضوع: الأصول العملية/ أصالة البراءة / تنبيهات البراءة
هذا وقد عممت مدرسة المحقق النائيني هذا الأمر الى كل أصل يكون حاكماً على أصالة البراءة وإن لم يكن أصلاً موضوعياً، فكما أنَّ جريان البراءة مشروط بعدم وجود أصل موضوعي يكون حاكماً عليها كذلك يكون مشروطاً بعدم وجود أصل حكمي يكون حاكماً عليها، وهذا من قبيل استصحاب بقاء التكليف فهو أصل جار في رتبة الحكم ويقدم على أصالة البراءة، فالحكومة لا تختص بالأصل الموضوعي بل تعمم الى الأصل الجاري في الحكم، وأما بيان الحكومة فباعتبار أنَّ موضوع البراءة العقلية هو عدم البيان، وموضوع البراءة الشرعية هو الشك في التكليف، وكل منهما يرتفع باستصحاب بقاء التكليف، فإنه يصلح أن يكون بياناً على التكليف فيرفع موضوع القاعدة العقلية، ورافع للشك فيرتفع موضع قاعدة البراءة الشرعية، فيكون حاكماً على البراءة العقلية والبراءة الشرعية.
وفسَّرت هذه المدرسة تقدم الاستصحاب على أصالة البراءة على أساس أنَّ المجعول فيه هو الطريقية وإلغاء الشك فيكون الاستصحاب رافعاً لموضوع البراءة تعبداً وهو معنى الحكومة.
والسؤال المطروح على هذه المدرسة هو تفسير مسألة تقدم أصالة الطهارة على استصحاب النجاسة في مثال الثوب المتنجس بالبول المغسول بماء محكوم بالطاهرة، حيث قالوا أنَّ أصالة الطهارة الجارية في الماء تتقدم على استصحاب النجاسة في الثوب فما هو الوجه في هذا التقديم؟
فإن كان تقديم الأصول الموضوعية والحكمية على أساس أنَّ المجعول هو الطريقية كما ذكر في الاستصحاب فما هو الوجه في تقديم أصالة الطهارة على الاستصحاب وهي أصل عملي بحت ليس المجعول فيها هو الطريقية بلا اشكال!
وهذا ما يكشف عن وجود نكتة أخرى للتقديم غير مسألة الطريقية، وهي التي تُفسر لنا تقديم أصالة الطهارة على استصحاب النجاسة، وهذه النكتة إما هي السببية والمسببية فيقال كل أصل سببي يتقدم على الأصل المسببي وأصالة الطهارة تجري في الماء فتكون أصلاً سببياً بينما استصحاب النجاسة يجري في الثوب فيكون أصلاً مسببياً، وهذا جار في الأمثلة السابقة أيضاً ففي مثال الشك في بقاء الخمرية أو انقلابه خلاً نستصحب بقاء الخمرية وهو أصل سببي في قبال أصالة البراءة الجارية في الحكم هي أصل مسببي، فبهذه النكتة يمكن تفسير التقديم في جميع هذه الموارد بلا محذور.
أو يقال إنَّ النكتة هي جريان الأصل في رتبة الموضوع وهذا يقتضي تقدمه على الأصل الجاري في رتبة الحكم، ويدعى أنَّ هذه النكتة متحققة في جميع هذه الموارد، وبحث نكتة التقديم ليس هنا محله، وغرضنا هنا هو الإشارة الى أنَّ هناك نكات أخرى غير الطريقية تُفسر لنا هذا التقديم، وأما محل بحث نكات تقديم الأصول بعضها على بعض فهو في مباحث الاستصحاب.
والذي نريد قوله هنا هو أنَّ جريان أصل البراءة مشروط بعدم وجود ما يعارضه وينافيه، سواءً كان أقوى منه كالحاكم والوارد عليه أو كان مساوياً له، أما الأول فلا إشكال في تقدمه على البراءة، وأما الثاني فيكون معارضاً لها ويوجب التساقط، فعلى كلا التقديرين لا تجري البراءة.
ثم إنهم ذكروا بحثاً في المقام ولعل الأصل فيه هو ما ذكره الشيخ الأنصاري كمثال للأصل الموضوعي الذي يكون حاكماً على البراءة ويكون جريانها مشروطاً بعدمه، وهو أصالة عدم التذكية التي يُقدم على البراءة لأنها أصل موضوعي حاكم على البراءة، وهذا مخصوص بما إذا كان الشك في الحلية والحرمة ناشئاً من الشك في قبول الحيوان للتذكية أو عدم قبوله، وهذا المثال صار محلاً للبحث والكلام عن معناه وبيان محتملاته وعن كيفية جريان الأصل فيه ونحو ذلك من البحوث المطولة، لكنه بحث صغروي ومحله الفقه، وهناك يبحث عن معنى التذكية وحدودها، وأن أصالة عدم التذكية تجري أو لا، وهل هي بمعنى أنَّ الأصل عدم قبول الحيوان للتذكية، أو بمعنى أنَّ التذكية كموضوع خارجي نشك في تحققه، كل هذه أبحاث إستطرادية ذكرت في علم الأصول وأخذت حيزاً واسعاً منه إلا أنَّ موضعه الفقه فلا نتعرض له هنا.
تحرير محل الكلام:
أما حُسن الاحتياط عقلاً فذكروا أنه مما لا مجال للتوقف فيه وذلك لادراك المكلف به الواقع والتحرز عن الوقوع في مخالفته، من دون فرق بين الشبهة الحكمية وبين الشبهة الموضوعية، ومن دون فرق بين الشبهة الحكمية الوجوبية والتحريمية.
وإنما الكلام في الاستحباب الشرعي للاحتياط، فوقع الكلام أولاً في إمكانه وهو بحث ثبوتي، وثانياً في كيفية إثباته واستفادته من الأدلة وهو بحث إثباتي كما هو واضح وإن كان وقع الخلط بينهما في بعض الكلمات.
والظاهر أنَّ هذا البحث بكلا شقيه الثبوتي والاثباتي يشمل العبادات وغيرها كالشك في حرمة شرب التتن فيقع البحث في أنَّ الاحتياط بتركه هل هو ممكن أو لا، وهل هو مستحب شرعاً أو لا وما هي طريقة إثباته، وكذلك يشمل العبادات كالشك في وجوب عبادة ما أو عدم وجوبها، فهل يمكن الحكم باستحباب الاحتياط فيها شرعاً أولاً، وكيف يمكن إثباته من الأدلة ثانياً، فلا داعي لتخصيص الكلام بغير العبادات، نعم تتميز العبادات بخصوصيات فالمناسب أن يُفرد لها بحث خاص، ومن هنا يقع الكلام في مقامين:
أما المقام الأول فالكلام فيه يقع في إمكانه أو عدم إمكانه، ثم في كيفية إثباته، وينبغي الالتفات الى أنَّ الكلام عن الاستحباب المولوي الطريقي وهو الذي يكون بملاك إدراك الواقع، وأما الاستحباب المولوي بملاك آخر من قبيل الملاك المشار إليه في الروايات السابقة من قبيل (فمن ترك ما اشتبه عليه من الإثم فهو لما استبان له أترك) أي أنَّ الانسان إذا احتاط يكون أقدر على ترك المحرمات الواقعية فهذا ملاك آخر غير إدراك الملاكات الواقعية، وليس هو محل الكلام، ولا إشكال في إمكانه بل في وقوعه.