45/04/14
الموضوع: الأصول العملية/ أصالة البراءة / ما استُدل به للاحتياط/ الدليل الشرعي
(الحسن بن محمّد بن الحسن الطوسيُّ في ( أماليه ) عن أبيه ، عن عليِّ بن أحمد بن الحمامي ، عن أحمد بن محمّد القطان ، عن إسماعيل بن أبي كثير ، عن عليِّ بن إبراهيم ، عن السري بن عامر ، عن النعمان بن بشير قال : سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول : إن لكل ملك حمىٰ وإن حمى الله حلاله وحرامه ، والمشتبهات بين ذلك ، كما لو أنَّ راعياً رعى إلى جانب الحمى لم تثبت غنمه أن تقع في وسطه ، فدعوا المشتبهات)[1]
وفي هذه الرواية دلالة على لزوم ترك المشبهات، وهي ما كان مردداً بين الحلال والحرام، وهذا المضمون موجود في روايات كثيرة من طرقنا ومن طرقنا العامة، ومن ذلك الحديث 52 من الباب نفسه، رواية سلام بن المستنير:
(محمّد بن عليّ بن عثمان الكراجكي في كتاب ( كنز الفوائد ) عن محمّد بن عليِّ بن طالب البلدي ، عن محمّد بن إبراهيم بن جعفر النعماني ، عن أحمد بن محمّد بن سعيد بن عقدة ، عن شيُوخه الأربعة ، عن الحسن بن محبوب ، عن محمّد بن النعمان الأحول ، عن سلام بن المستنير ، عن أبي جعفر الباقر ( عليه السلام ) ، قال : قال جدِّي رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) : أيّها الناس ! حلالي حلال إلى يوم القيامة ، وحرامي حرام إلى يوم القيامة ، ألا وقد بيّنهما الله عزَّ وجلَّ في الكتاب ، وبينتهما لكم في سنتي وسيرتي ، وبينهما شبهات من الشيطان وبدع بعدي ، من تركها صلح له أمر دينه ، وصلحت له مروّته وعرضه ، ومن تلبّس بها وقع فيها واتبعها ، كان كمن رعى غنمه قرب الحمى ، ومن رعى ماشيته قرب الحمى ، نازعته نفسه إلى أن يرعاها في الحمى ، ألا وإنَّ لكلّ ملك حمى ، ألا وإنَّ حمى الله عزَّ وجلَّ محارمه ، فتوقّوا حمى الله ومحارمه.)[2] .
ومنها مرسلة الصدوق في الفقيه، وهي الحديث 27من الباب نفسه:
(محمّد بن عليّ بن الحسين قال : إن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) خطب الناس ، فقال في كلام ذكره : حلال بيّن ، وحرام بيّن ، وشبهات بين ذلك ، فمن ترك ما اشتبه عليه من الإِثم فهو لما استبان له أترك ، والمعاصي حمى الله ، فمن يرتع حولها يوشك أن يدخلها)[3]
والملاحظ أنَّ جميع هذه الروايات غير تامة سنداً، ولكن قد يدعى استفاضة هذا المضمون بلحاظ كثرة الروايات عند الفريقين، وهو غير بعيد، فيمكن التعويل عليه، هذا من حيث السند.
وأما من حيث الدلالة فيقال إنَّ المستفاد من هذه الأخبار هو أنَّ ارتكاب الشبهات واقتحامها يوجب اقتراب المرتكب واشرافه على الوقوع في المحرمات، كما أنَّ من يرعى الغنم قرب الحمى يوشك تقع فيه، فيجب ترك الشبهات.
ومن الواضح أنَّ المُستدل بهذه الروايات على وجوب الاحتياط لا بد أن يُثبت حرمة الاشراف على الحرام والاقتراب منه حتى يمكنه الاستدلال بهذه الروايات على حرمة ارتكاب الشبهات، وأما إذا قلنا أنَّ الاقتراب من الحرام ليس حراماً فلا يصح الاستدلال بها.
وبعبارة أخرى هذه الروايات تدل على أنَّ هناك حلال واضح ومعلوم وهناك حرام واضح ومعلوم أيضاً وهناك أمور مشتبهة، ويفهم منها أنَّ ارتكاب الشبهة ليس فيه ملاك ومحذور في نفسه وإنما المحذور في أنَّ من يرتكبه يوشك أن يقع في الحرام البيّن، لأنّ ارتكاب ما يُحتمل حرمته يُجرئ الانسان على ارتكاب المحرمات المعلومة، فملاك النهي عن ارتكاب الشبهة هو كونه مقرب من ارتكاب الحرام، وبهذا تكون الرواية أجنبية عن المقام لأنَّ المقصود الاستدلال بها لإثبات النهي عن ارتكاب الشبهة ووجوب الاحتياط فيها لاحتمال الوقوع في الحرام الواقعي عند ارتكابها، وهذا لا يثبت بهذه الأخبار لما عرفت من أنَّ النهي عن ارتكاب انما هو بملاك أنَّ ذلك يقربه الى ارتكاب الحرام المعلوم ويجرئه عليه وهذا لا يستفاد منه وجوب الاحتياط إلا إذا ثبت حرمة الاقتراب من المحرمات وهذا دونه خرط القتاد، فلا بد من حمل هذه الروايات على النهي الارشادي.
(وعن محمّد بن يحيى ، عن محمد بن الحسين ، عن محمّد بن عيسى ، عن صفوان بن يحيى ، عن داود بن الحصين ، عن عمر ابن حنظلة ، عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) ـ في حديث ـ قال : وإنّما الأمور ثلاثة : أمر بيّن رشده فيتّبع ، وأمر بيّن غيّه فيجتنب ، وأمر مشكل يردّ علمه إلى الله ( وإلى رسوله )). قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) : حلال بيّن ، وحرام بيّن ، وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشبهات نجا من المحرّمات ، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرّمات ، وهلك من حيث لا يعلم ، ثمّ قال في آخر الحديث : فإنَّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات)[4]
وذكرها مع صدرها في الباب 9 الحديث 1
ولحن السؤال كاشف عن أنَّ عمر بن حنظلة يريد معرفة حكم الخبرين المتعارضين وليس سؤاله عن مسألة عارضة، وهذا مؤشر على فقاهته، وقد بيَّن له الإمام عليه السلام أولاً الى المرجحات في الحكم، وهي الترجيح بالأعدلية والأفقهية والأصدقية في الحديث والأورعية، ثم بيَّن له المرجحات في الرواية ومنها الترجيح بالشهرة الروائية، بقرينة قوله: (ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك فإنَّ المجمع عليه لا ريب فيه) وقد أقام الشيخ الأنصاري قده في الرسائل قرائن عديدة على أنَّ المقصود بالشاذ هو الذي فيه ريب وليس المقصود الذي لا ريب في بطلانه.
وسند الرواية فيه كلام كثير ذكرناه في باب التعارض وغيره، وانتهينا الى صحته وإن استشكل في وثاقة عمر بن حنظلة، وذكرنا أنَّ الاشكال ليس في محله، وامكان الاعتماد عليه باعتبار رواية بعض المشايخ الذين لا يرون إلا عن ثقة عنه بسند صحيح، كما نبهنا الى عدم الحاجة في إثبات وثاقته الى التمسك بجواب الامام عليه السلام عند سؤاله: (إن عمر بن حنظلة أتانا عنك بوقت، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): إذا لا يكذب علينا..)
حيث نوقش فيها بضعف سندها فلا يمكن الاعتماد عليها لإثبات وثاقته، وقد دفعنا الاشكال عن هذه الرواية، وذكرنا أنَّ الطريق الأخصر لإثبات وثاقته وهو رواية بعض المشايخ الثلاثة عنه بسند صحيح.
وبناءً على ما تقدم من أنَّ الخبر الشاذ يكون مما فيه ريب بالقرائن التي ذكرها الشيخ، ومنها استشهاد الامام بحديث التثليث (حلال بيّن ، وحرام بيّن ، وشبهات بين ذلك) الظاهر منه إدخال الخبر المشتبه في القسم الثالث وإلا فلا داعي لتثليث الأقسام، وأنَّ حكم هذا القسم وجوب رد علمه الى الله والى رسوله، وحينئذِ يقال إنَّ الإمام عليه السلام استشهد بقول النبي صلى الله عليه وآله على وجوب طرح الأمر المشكل ورد علمه الى الله ورسوله فلا بد أن يكون الحديث المستشهد به دالاً على وجوب ترك الشبهات حتى يصح الاستشهاد به على وجوب طرح الخبر الشاذ ورده، وبهذا يدل على وجوب طرح الأمر المشتبه، وهو معنى وجوب الاحتياط في الشبهات.