الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

45/04/13

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/ أصالة البراءة / ما استُدل به للاحتياط/ الدليل الشرعي

 

الطائفة الثالثة: أخبار التثليث، وفيها روايات:

الأولى: رواية جميل بن صالح، يرويها الشيخ الصدوق في الفقيه:

(وبإسناده عن عليِّ بن مهزيار، عن الحسين بن سعيد، عن الحارث بن محمّد بن النعمان الأحول، عن جميل بن صالح، عن الصادق (عليه السلام)، عن آبائه (عليهم السلام) قال : قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ـ في كلام طويل ـ : الأُمور ثلاثة : أمر تبيّن لك رشده فاتّبعه ، وأمر تبيّن لك غيّه فاجتنبه ، وأمر اختُلف فيه فردّه إلى الله عزَّ وجلَّ.)[1]

والرواية مخدوشة من حيث السند من جهة الحارث بن محمد النعمان الأحول فإنه مجهول، ورواها أيضاً في الخصال والمجالس ولكن بطرق ضعيفة أيضاً

والاستدلال بها على وجوب الاحتياط يتوقف على تتميم ثلاث أمور:

الأول أن يُراد من (بيِّن الرشد) معلوم الحلية، ومن (بيِّن الغي) معلوم الحرمة.

الثاني أن يُراد من (المختلف فيه) ما يُشك في حكمه، أي المردد بين الحلال والحرام.

الثالث أن يُراد من قوله (فردّه إلى الله عزَّ وجلَّ) وجوب الاحتياط.

فإذا تمت هذه الأمور تم الاستدلال بالرواية على وجوب الاحتياط في الشبهة الحكمية، إلا أنها محل مناقشة، وتفصيل ذلك:

المناقشة في الأمر الأول: قالوا من المحتمل - بل لعله الظاهر - أنَّ المراد من بيّن الرشد وبيّن الغي هو ما يستقل العقل بادراك حسنه وقبحه، والمراد من المختلف فيه عدم إدراك العقل حسنه أو قبحه، وهذا يجب رده الى الله عز وجل.

وهذا احتمال وارد في الرواية ولا يتعين تفسيرها بما ذُكر، فيكون المقصود بالرواية هو أنَّ ما استقل عقلك بحسنه ورشده فاتبعه وما استقل بقبحه وغيّه فاجتنبه، وأما ما اختُلف فيه بمعنى لم تدرك حسنه وقبحه إداركاً جزمياً واضحاً فرده الى الله عز وجل، وهذا في مقابل الاعتقاد فيه على ضوء الذوق والاستحسان والسليقة ونحو ذلك.

قد يقال يجاب عن هذه المناقشة بأمور:

أولاً: إنَّ لازم ما ذُكر هو حمل الرواية على الارشاد الى ما استقل به العقل العملي وهذا خلاف الظهور الأولي للخطابات الشرعية وهو حملها على المولوية.

ويلاحظ عليه: بأنَّ مفاد ما ذُكر في المناقشة هو حجية العقل العملي في المستقلات العقلية، نعم في غيرها لا يمكن الاعتماد إلا على الشارع، وبناء عليه تكون المولوية واضحة بحسب هذا التفسير.

ثانياً: إن ما ذكر في المناقشة لا ينسجم مع ما ذكر في ذيل الرواية (وأمر اختُلف فيه) لأنه لا موضوع للاختلاف في المستقلات العقلية، لأنّ العقل العملي إما أن يدرك حسن هذا وقبح ذاك أو لا يدرك شيئاً ولا ثالث لها، وليس هناك أمرٌ يختلف فيه العقل.

ويلاحظ عليه: بأنَّ المراد من (أمر اختُلف فيه) بحسب المناقشة ليس هو ما يختلف فيه العقل وإنما المقصود الأمر الذي لا يدرك العقل حسنه لا قبحه.

ثالثاً إنَّ نسبة الرشد والغي الى المخاطب في قوله (تبيَّن لك) تدل على أنَّ المدرك أمر نسبي وليس مطلقاً، ولو كان المراد من الرشد والغي ما يدركه العقل العملي بالاستقلال فلا يمكن أن يكون نسبياً.

ويلاحظ عليه أنَّ استفادة النسبية بما ذكر غير واضحة بل غير صحيحة وذلك باعتبار أنَّ المخاطب لا يُلحظ بما هو تابع لشريعة معينة بل الظاهر من المناقشة أنَّ المخاطب يُلحظ بما هو عاقل لا بما هو متشرع، وعليه يكون الحديث عن المستقلات العقلية وهي ثابتة على الاطلاق.

ومن هنا يظهر:

أولاً أنَّ ما ذُكر في مناقشة الاستدلال بالرواية على وجوب الاحتياط بلحاظ الأمر الأول وارد.

وثانياً يحتمل في الرواية أن تكون ناظرة الى خصوص المسائل العقائدية فإنَّ فيها أمور واضحة الصحة، وأمور واضحة الفساد، وأمور مختلف فيها ولا بد من رد أمرها الى الشارع، وهذا ما يمنع من الاستدلال بالرواية في محل الكلام أيضاً.

المناقشة في الأمر الثاني: وهو أنَّ المختلف فيه بمعنى المشكوك حكمه، فكأنه مبني على أخذ الاختلاف على نحو الطريقية الى الشك باعتبار أنه يكون منشأً للشك عادة، ولكنه خلاف الظاهر جداً وإنما يؤخذ الاختلاف بما هو اختلاف وليس طريقاً الى الشك، وحينئذِ يحمل قوله (تبيّن لك رشده) على ما اتُفق على حكمه، باعتبار أنَّ الاتفاق يكون منشأً للوضوح والتبيُّن بخلاف الاختلاف فانه يكون منشأً للشك والتردد، وحينئذِ تكون الرواية ناظرة الى حجية الاجماع والاتفاق، لأنّ حصول الاتفاق على شيء يستلزم الوضوح والتبيُّن فيمكن الاعتماد عليه، وأما ما اختلف فيه فيجب رده الى الله، وهذا ما يجعل الرواية أجنبية عن محل الكلام، وعليه لا يكون معنى قوله (وأمر اختُلف فيه) غير منسجم مع صدر الرواية كما ذكر في رد المناقشة.

وأما مناقشة الأمر الثالث: فالظاهر أنَّ المقصود من (فردّه إلى الله عزَّ وجلَّ) هو لزوم اتباع الطرق الشرعية في مقابل اتباع الطرق الظنية ونحوها مما لا اعتبار به شرعاً، وأما وجوب الاحتياط في مقام العمل فليس ظاهراً منه.


[1] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج27، ص162، أبواب صفات القاضي، باب12، ح28، ط آل البيت.