الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

45/04/07

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/ أصالة البراءة / ما استُدل به للاحتياط/ الدليل الشرعي

 

الجواب الثاني: لو تنزلنا عن الجواب الأول وسلَّمنا قاعدة قبح العقاب بلا بيان فيمكن أن نستفيد من أخبار التوقف وجوب الاحتياط في محل الكلام وذلك بدعوى أنَّ هذه الأخبار لبيان الحكم الالزامي بلسان ترتب العقاب على الفعل أو الترك، فأخبار التوقف وإن فُرض فيها وجود الهلكة بقطع النظر عنها أي أنها تتحدث عن شبهة تنجَّزت بمنجِّز في مرتبة سابقة وهذا يقتضي عدم شمولها لمحل الكلام وهذا يعني أنَّ الأخبار تكون في مقام بيان ترتب الهلكة على اقتحام الشبهة المنجَّزة، فالهلكة لا ترتب على هذه الأخبار بل على المنجِّز الموجود في الشبهة في مرتبة سابقة، لكن يمكن أن نفسر هذه الأخبار بأنها في مقام بيان الحرمة الظاهرية للارتكاب بلسان ترتب العقاب ووجود الهلكة فيه وهو لسان متعارف لبيان الحرمة الواقعية أو الظاهرية، فبدلاً من أن يقال: (يحرم ارتكاب الشبهة) يقال: (في ارتكاب الشبهة هلكة وعقاب)، فافتراض وجود هلكة في اقتحام الشبهة إنما هو لبيان ملزومها أي الحرمة الظاهرية للارتكاب أو وجوب الاحتياط لا لبيان وجود منجِّز في الشبهة في مرتبة سابقة، وعليه فلا مانع من شمول أخبار التوقف لمحل الكلام ويمكن الاستدلال بها على وجوب الاحتياط.

مناقشات السيد الشهيد قده:

وهناك مناقشات أخرى في الاستدلال بأخبار التوقف ذكرها السيد الشهيد قده واختص بها بحسب التتبع، فمنها: إنَّ الوارد في هذه الأخبار هو الوقوف في مقابل الاقتحام، وليس من الواضح أنَّ المراد من الوقوف هو الاجتناب في مقابل الارتكاب حتى يُستفاد منها لزوم الاجتناب وحرمة الارتكاب أي وجوب الاحتياط، بل يحتمل أن يراد بالاقتحام الاقدام بلا تريث وتمعن وروية، فيكون معنى الوقوف هو التريث والتأمل وعدم التسرع، فكأنها تقول: لا تقدم على ارتكاب الشبهة بلا تأمل وتريث وبلا التماس دليل يسوغ الاقدام فإنَّ التريث وعدم التسرع خير من اقتحام الشبهة، فالنهي عن الاقتحام بمعنى النهي عن الدخول في الشبهة من دون تريث، وهذا المعنى لا يضر الأصولي لأنه لا يقدم على الشبهة من دون تريث لأنه يلتمس الدليل المسوغ للارتكاب، فالرواية لا تنهى عن اقتحام الشبهة مطلقاً وإنما تنهى عن اقتحامها بلا تروي.

ومنها: أنَّ الشبهة في هذه الروايات لا يراد منها الشك في الحكم وإنما المراد منها المعنى اللغوي وهو المثل والنظير والشبيه فهي مأخوذة من المشابهة والمماثلة، وهذا المعنى هو المراد في الأخبار أي الأمور والدعاوى التي عليها علامات الحق بينما هي باطلة، فهي ما يكون ضلالاً في واقعه وباطنه لكنه يشبه الحق في ظاهره

ثم ينقل كلاماً لأمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة يُبين فيه معنى الشبهة، قال صلوات الله وسلامه عليه:

(وَإِنَّمَا سُمِّيَتِ الشُّبْهَةُ شُبْهَةً لأنَّهَا تُشْبِهُ الْـحَقَّ، فَأَمَّا أَوْلِيَاءُ اللهِ فَضِيَاؤُهُمْ فِيهَا الْيَقِينُ وَدَلِيلُهُمْ سَمْتُ الْـهُدَى، وَأَمَّا أَعْدَاءُ اللهِ فَدُعَاؤُهُمُ الضَّلالُ وَدَلِيلُهُمُ الْعَمْى)[1]

وبناءً عليه تكون هذه الروايات أجنبية عن محل الكلام.

هذه هي أخبار الطائفة الأولى وقد تبين أنَّ الاستدلال بها غير تام لتمامية بعض المناقشات المتقدمة.

الطائفة الثانية: الأخبار الآمرة بالاحتياط في موارد خاصة.

ومن ذلك رواية عبد الرحمن بن الحجاج، وهي صحيحة السند :

(محمّد بن يعقوب ، عن عليِّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، وعن محمّد بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان جميعاً ، عن ابن أبي عمير ، وصفوان بن يحيى جميعاً ، عن عبد الرحمن بن الحجّاج ، قال : سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن رجلين أصابا صيداً ، وهما محرمان ، الجزاء بينهما ؟ أو على كلّ واحد منهما جزاء ؟ قال : لا ، بل عليهما أن يجزي كلّ واحد منهما الصيد، قلتُ : إنَّ بعض أصحابنا سألني عن ذلك، فلم أدرِ ما عليه، فقال: إذا أصبتم مثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط ، حتّى تسألوا عنه فتعلموا)[2]

والاستدلال بها على وجوب الاحتياط بتقريب أنَّ اسم الإشارة في قوله (إذا أصبتم مثل هذا) - وفي نسخة [بمثل هذا] وما في الكافي المحقق موافق لما هنا - يُشار به الى واقعة الصيد ولا إشكال في أنها شبهة حكمية، وأنها مرددة بين الأقل والأكثر، فالرواية تدل على وجوب الاحتياط في الشبهة الحكمية، ولكن يمكن إلغاء خصوصية الصيد وخصوصية التردد بين الأقل والأكثر والتعدي الى مطلق الشبهات الحكمية، وذكروا أنَّ هذا التعدي يُستفاد من قوله (إذا أصبتم مثل هذا) الذي يظهر منه عموم الحكم لكل ما يكون مثل مورد السؤال ومنه الشبهة البدوية، فتدل الرواية على وجوب الاحتياط في محل الكلام.


[1] نهج البلاغه، صبحي صالح، ج1، ص81.
[2] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج13، ص46، أبواب صفات القاضي، باب18، ح6، ط آل البيت.