الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

45/04/05

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/ أصالة البراءة / ما استُدل به للاحتياط - الدليل الشرعي

 

كان الكلام في الاستدلال بالسنُّة على وجوب التوقف في الشبهات الحكمية، وقُسمت الروايات فيها الى طوائف، والطائفة الأولى هي ما كان بلسان (الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة)، وتقريب الاستدلال بها هو أن يقال إنها تدل على وجوب الوقوف عند الشبهة ويفهم منها أنَّ الاقتحام في الشبهة هو اقتحام الهلكة.

 

ونوقش في هذا الاستدلال بمناقشات:

المناقشة الأولى ما ذكره السيد الخوئي قده وحاصلها:

أنَّ الوارد في هذه الأخبار هو عنوان (الشبهة) أو قل أنَّ موضوع وجوب التوقف هو الشبهة، فهي ظاهرة في ما يكون ملتبساً وغير واضح، ومقتضى إطلاقها هو عدم الوضوح من جميع الجهات، أي لا بلحاظ الواقع ولا بلحاظ الظاهر، وأما ما يكون واضحاً بلحاظ الواقع وما يكون ملتبساً بلحاظ الواقع لكنه واضح بلحاظ الحكم الظاهري فلا يكون شبهة، فالمكلف الذي لم يتضح لديه الحكم الواقعي ولكن بلحاظ الأدلة ثبت لديه جواز الاقتحام أو ثبت لديه التوقف فلا يكون في شبهة ويكون خارجاً عن موضوع أخبار وجوب التوقف لعدم صدق الشبهة، وإنما يلتبس عليه الأمر إذا شك في الحكم الواقعي الثابت للشيء بعنوانه الأولي وشك في الحكم الظاهري الثابت للشيء بعنوانه الثانوي فهنا تصدق الشبهة ويتحقق موضوع أدلة وجوب التوقف، وبناءً عليه لا يصح الاستدلال بهذه الطائفة من الأخبار في محل الكلام - وهو الشبهة الحكمية التحريمية - لأن الحكم الواقعي وإن كان مشكوكاً إلا أنَّ الحكم الظاهري ليس كذلك، وذلك باعتبار أنَّ أدلة الترخيص والبراءة تجري لإثباتها في هذه المورد فتخرج عن موضوع أخبار التوقف.

وبعبارة أوضح إنَّ أخبار الترخيص والبراءة تكون رافعة لموضع أخبار التوقف، لأنَّ موضوع أخبار التوقف هو الشبهة بقول مطلق وأخبار الترخيص تثبت عدم كون المورد شبهة.

ثم يذكر شاهداً على ما ذكره من أنَّ موضوع أخبار التوقف هو الشبهة بقول مطلق وحاصله:

لا إشكال في عدم وجوب التوقف في بعض الشبهات بالاتفاق كالشبهة الموضوعية والشبهة الحكمية الوجوبية، فهي خارجة عن أخبار التوقف، والسؤال لمَ خرجت عنها، هل خرجت بالتخصيص أم بالتخصص، بمعنى هل خروجها هو خروج من الحكم مع صدق الموضوع عليها أم هو خروج من الموضوع؟

ثم يجيب: إنَّ خروجها بالتخصص لأنَّ أخبار التوقف آبية عن التخصيص، لأنَّ لسانها (الوقف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة) وهذا لا ينسجم مع استثناء بعض الموارد فيتعين خروجها بالتخصص، وذلك باعتبار أنَّ أخبار الاباحة يثبت بها الحكم الظاهري، فيرتفع موضوع أخبار التوقف لأنَّ موضوعها عدم العلم الأعم من الحكم الواقعي والحكم الظاهري، وكما يرتفع موضوعها بالعلم بالحكم الواقعي فكذلك يرتفع مع العلم بالحكم الظاهري، وهذا ما يمكن تطبيقه في الشبهة التحريمية فيقال إنَّ أخبار التوقف لا تشملها بعد تمامية أخبار البراءة والترخيص، فيلتزم فيها بالبراءة والترخيص ولا يلتزم فيها بوجوب التوقف كما يقول الأخباريون.

 

ولوحظ على هذه المناقشة:

أولاً: إنَّ وجوب التوقف المستفاد من هذه الطائفة هو حكم ظاهري ثابت للشيء بالعنوان الثانوي وهو عنوان الشيء الذي يُشك في حكمه الواقعي، وعليه يكون موضوعه الشك في الحكم الواقعي فقط لا الأعم من الشك في الحكم الواقعي والشك في الحكم الظاهري.

ثانياً: يمكن النقض والجواب بعكس ما ذُكر فبدلاً من أنَّ تكون أخبار البراءة والترخيص رافعة لموضوع أخبار التوقف تكون أخبار التوقف رافعة لموضوع أخبار البراءة والترخيص، لأنَّ أخبار البراءة موضوعها الشبهة أيضاً فإذا كان موضوع أخبار التوقف هو الشك الأعم من الشك في الحكم الواقعي والشك في الحكم الظاهري كانت رافعة لموضوع البراءة ومبينة لحكمه الظاهري وهو التوقف، فلا يكون مجهولاً من جميع الجهات بل يكون حكمه الظاهري واضحاً ويلتزم فيه بوجوب التوقف، ولا أولوية لجوابه على هذا الجواب.

ثالثاً: إنَّ أخبار التوقف يفهم منها اشتمالها على صغرى وكبرى، والصغرى هي: إنَّ الشبهة فيها احتمال أو مظنة الهلكة، والكبرى هي: يجب التوقف عند الشبهة وأنه خير من الاقتحام في الهلكة، فيدعى بأنَّ الذي يأبى عن التخصيص هو الكبرى وأما الصغرى فلا، فيمكن أن يأتي دليل يثبت التأمين فيها من ناحية الهلكة، وهو دليل البراءة والترخيص، فهذه الشبهة - أي الصغرى - ليس فيها مظنة الهلكة، ولا ضير في تخصيص الصغرى، وعليه فكما خرجت الشبهة الموضوعية والشبهة الوجوبية يخرج محل الكلام، ولا إشكال في الالتزام بالتخصيص بعد قيام الدليل على البراءة والترخيص، وهذا تخصيص للصغرى وليست آبية عن التخصيص كالكبرى.

المناقشة الثانية: هو أن يلتزم بالتخصيص كما تقدم فيقال إنَّ أخبار البراءة تُقدم على أخبار التوقف بالأخصية.

فإن قيل: إنَّ الأخصية تقتضي أن يكون بين الدليلين نسبة العموم والخصوص المطلق وهو غير متحقق في محل الكلام لأنَّ موضوع أخبار البراءة وأخبار التوقف واحد وهو الشك في الحكم الواقعي، فكيف تكون أخبار البراءة أخص مطلقاً من أخبار التوقف؟

قلنا: إنَّ الأخصية المدعاة في المقام مبنية على نظرية انقلاب النسبة، وذلك بأن يقال: إنَّ أخبار البراءة خرج منها قطعاً الشبهة قبل الفحص والشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي والشبهة في بابي الدماء والفروج، وذلك لوجود أدلة دالة على وجوب الاحتياط في هذه الموارد، فتختص أخبار البراءة بالشبهة الحكمية بعد الفحص مع كونها غير مقرونة بالعلم الإجمالي وليست بابي الدماء والفروج، فتكون حينئذٍ أخص مطلقاً من أخبار التوقف وتقدم عليها بالأخصية، وذلك بعد انقلاب النسبة.

وبعبارة أخرى: هناك ثلاثة أدلة: أخبار التوقف، وأدلة وجوب الاحتياط في الشبهات الثلاث، وأخبار البراءة، ولا إشكال أنَّ الدليل على وجوب الاحتياط في الشبهات الثلاثة أخص مطلقاً من دليل البراءة فيُخصصها، وبعد التخصيص تنقلب النسبة بين أخبار البراءة وبين أخبار التوقف وتكون أخبار البراءة أخص مطلقاً من أخبار التوقف فتُقدم عليها بالأخصية.

قد يقال: على ضوء ما تقدم يمكن أن نلتزم بعدم تقديم أخبار البراءة على أخبار التوقف وذلك بأن نقول:

إنَّ أخبار البراءة كما خرج منها الشبهات الثلاثة لقيام الدليل على وجوب الاحتياط فيها فكذا خرج من أخبار التوقف بعض الشبهات كالشبهة الموضوعية والشبهة الوجوبية فتكون أخص من وجه من أخبار البراءة، إذ يجتمعان في الشبهة الحكمية التحريمية حيث تدل أخبار التوقف على وجوب التوقف فيها بينما تدل أخبار البراءة على البراءة فيها، وتفترق أخبار التوقف عن أخبار البراءة في الشبهات الثلاث المتقدمة فيجب فيها التوقف، وتفترق أخبار البراءة عن أخبار التوقف في الشبهة الموضوعية والشبهة الحكمية الوجوبية، فبينهما مادة اجتماع ومادتا افتراق، ومع كون النسبة بينهما هي العموم من وجه فلا وجه لتقديم أخبار البراءة على أخبار التوقف بالأخصية.